فصل: تفسير الآية رقم (22)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ‏(‏22‏)‏‏}‏

 بساطاً‏)‏، وطلحة ‏(‏مهاداً‏)‏ وهي نظائر، وأدغم أبو عمرو لام ‏(‏جعل‏)‏ ‏{‏الذى جَعَلَ لَكُمُ الارض فِرَاشاً والسماء بِنَاء‏}‏ الموصول إما منصوب على أنه نعت ‏{‏رَبُّكُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 1 2‏]‏ أو بدل منه أو مقطوع بتقدير أخص أو أمدح وكونه مفعول ‏{‏تَتَّقُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 12‏]‏ كما قاله أبو البقاء إعراب غث ينزه القرآن عنه، وكونه نعت الأول يرد عليه أن النعت لا ينعت عند الجمهور إلا في مثل يا أيها الفارس ذو الجمة، وفيه أيضاً غير مجمع عليه، وإما مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف أو مبتدأ خبره جملة ‏{‏فَلاَ تَجْعَلُواْ‏}‏ والفاء قد تدخل في خبر الموصول بالماضي كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين‏}‏ إلى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ‏}‏ ‏[‏البروح‏:‏ 0 1‏]‏ والاسم الظاهر يقوم مقام الرابط عند الأخفش والإنشاء يقع خبراً بالتأويل المشهور، ومع هذا كله الأولى ترك ما أوجبه وأبرد من يخ قول من زعم أنه مبتدأ خبره ‏{‏رِزْقاً لَّكُمْ‏}‏ بتقدير يرزق، و‏{‏جَعَلَ‏}‏ بمعنى صير والمنصوبان بعده مفعولاه، وقيل‏:‏ بمعنى أوجد وانتصاب الثاني على الحالية أي أوجد الأرض حالة كونها مفترشة لكم فلا تحتاجون للسعي في جعلها كذلك، ومعنى تصييرها فراشاً أي كالفراش في صحة القعود والنوم عليها أنه سبحانه جعل بعضها بارزاً عن الماء مع أن مقتضى طبعها أن يكون الماء محيطاً بأعلاها لثقلها وجعلها متوسطة بين الصلابة واللين ليتيسر التمكن عليها بلا مزيد كلفة، فالتصيير باعتبار أنه لما كانت قابلة لما عدا ذلك فكأنه نقلت منه، وإن صح ما نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الأرض خلقت قبل خلق السماء غير مدحوة فدحيت بعد خلقها ومدت فأمر التصيير حينئذ ظاهر إلا أن كل الناس غير عالمين به، والصفة يجب أن تكون معلومة للمخاطب والذهاب إلى الطوفان، واعتبار التصيير بالقياس إليه من اضطراب أمواج الجهل ولا ينافي كرويتها كونها فراشاً لأن الكرة إذا عظمت كان كل قطعة منها كالسطح في افتراشه كما لا يخفى‏.‏ وعبر سبحانه هنا بجعل وفيما تقدم بخلق لاختلاف المقام أو تفنناً في التعبير كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏خُلِقَ السموات والارض وَجَعَلَ الظلمات والنور‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 1‏]‏ وتقديم المفعول الغير الصريح لتعجيل المسرة ببيان كون ما يعقبه من منافع المخاطبين أو للتشويق إلى ما يأتي بعده لا سيما بعد الاشعار بمنفعته فيتمكن عند وروده فضل تمكن، أو لما في المؤخر وما عطف عليه من نوع طول فلو قدم لفات تجاوب الأطراف، واختار سبحانه لفظ السماء على السموات موافقة للفظ الأرض وليس في التصريح بتعددها هنا كثير نفع، ومع هذا يحتمل أن يراد بها مجموع السموات، وكل طبقة وجهة منها، والبناء في الأصل مصدر أطلق على المبني بيتاً كان أو قبة أو خباء أو طرافاً، ومنه بنى بأهله أو على أهله خلافاً للحريري لأنهم كانوا إذا تزوّجوا ضربوا خباء جديداً ليدخلوا على العروس فيه، والمراد بكون السماء بناء أنها كالقبة المضروبة أو أنها كالسقف للأرض، ويقال لسقف البيت بناء، وروى هذا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وقدم سبحانه حال الأرض لما أن احتياجهم إليها وانتفاعهم بها أكثر وأظهر، أو لأنه تعالى لما ذكر خلقهم ناسب أن يعقبه بذكر أول ما يحتاجونه بعده وهو المستقر أو ليحصل العروج من الأدنى إلى الأعلى، أو لأن خلق الأرض متقدم على خلق السماء كما يدل عليه ظواهر كثير من الآيات أو لأن الأرض لكونها مسكن النبيين ومنها خلقوا أفضل من السماء، وفي ذلك خلاف مشهور، وقرأ يزيد الشامي ‏(‏ بساطاً‏)‏، وطلحة ‏(‏مهاداً‏)‏ وهي نظائر، وأدغم أبو عمرو لام ‏(‏جعل‏)‏ في لام ‏(‏لكم‏)‏‏.‏

‏{‏وَأَنزَلَ مِنَ السماء فاخرج *فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ‏}‏ عطف على ‏(‏جعل‏)‏ و‏{‏مِنْ‏}‏ الأولى للابتداء متعلقة بأنزل أو بمحذوف وقع حالاً من المفعول وقدم عليه للتشويق على الأول مع ما فيه من مزيد الانتظام مع ما بعد، أو لأن السماء أصله ومبدؤه ولتتأتى الحالية على الثاني إذ لو قدم المفعول وهو نكرة صار الظرف صفة، وذكر في «البحر» أن ‏{‏مِنْ‏}‏ على هذا للتبعيض أي من مياه السماء وهو كما ترى‏.‏ والمراد من السماء جهة العلو أو السحاب وإرادة الفلك المخصوص بناء على الظواهر غير بعيدة نظراً إلى قدرة الملك القادر جل جلاله وسمت عن مدارك العقل أفعاله، إلا أن الشائع أن الشمس إذا سامتت بعض البحار والبراري أثارت من البحار بخاراً رطباً ومن البراري يابساً، فإذا صعد البخاري إلى طبقة الهواء الثالثة تكاثف فإن لم يكن البرد قوياً اجتمع وتقاطر لثقله بالتكاثف، فالمجتمع سحاب والمتقاطر مطر، وإن كان قوياً كان ثلجاً وبرداً، وقد لا ينعقد ويسمى ضباباً‏.‏

وفي كل شيء له آية *** تدل على أنه واحد

وعلى هذا يراد بالنزول من السماء نشوؤه من أسباب سماوية وتأثيرات أثيرية فهي مبدأ مجازي له، على أن من انجاب عن عين بصيرته سحاب الجهل رأى أن كل ما في هذا العالم السفلي نازل من عرش الإرادة وسماء القدرة حسبما تقتضيه الحكمة بواسطة أو بغير واسطة كما يشير إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 21‏]‏ بل من علم أن الله سبحانه في السماء على المعنى الذي أراده وبالوصف الذي يليق به مع التنزيه اللائق بحلال ذاته تعالى صح له أن يقول‏:‏ إن ما في العالمين من تلك السماء، ونسبة نزوله إلى غيرها أحياناً لاعتبارات ظاهرة وهي راجعة إليه في الآخرة‏.‏

الماء معروف، وعرفه بعضهم بأنه جوهر سيال به قوام الحيوان ووزنه فعل وألفه منقلبة عن واو همزته بدل من هاء كما يدل عليه مويه ومياه وأمواه وتنوينه للبعضية، وخصه سبحانه بالنزول من السماء في كثير من الآيات تنويهاً بشأنه لكثرة منفعته ومزيد بركته، و‏{‏مِنْ‏}‏ الثانية إما للتبعيض إذ كم من ثمرة لم تخرج بعد، فرزقاً حينئذ بالمعنى المصدري مفعول له لأخرج و‏{‏لَكُمْ‏}‏ ظرف لغو مفعول به لرزق أي أخرج شيئاً ‏{‏مِنَ الثمرات‏}‏ أي بعضها لأجل أنه رزقكم‏.‏ وجوّز أن يكون بعض الثمرات مفعول ‏(‏أخرج‏)‏، و‏(‏ رزقاً‏)‏ بمعنى مرزوقاً حالاً من المفعول أو نصباً على المصدر لأخرج، وإما للتبيين فرزق بمعنى مرزوق مفعول لأخرج و‏{‏لَكُمْ‏}‏ صفته، وقد كان ‏{‏مِنَ الثمرات‏}‏ صفته أيضاً إلا أنه لما قدم صار حالاً على القاعدة في أمثاله، وفي تقديم البيان على المبين خلاف، فجوزه الزمخشري والكثيرون، ومنعه صاحب «الدر المصون» وغيره، واحتمال جعلها ابتدائية بتقدير من ذكر الثمرات أو تفسير الثمرات بالبذر تعسف لا ثمرة فيه، وأل في ‏(‏الثمرات‏)‏ إما للجنس أو للاستغراق وجعلها له، ‏(‏ومن‏)‏ زائدة ليس بشيء لأن زيادة ‏(‏من‏)‏ في الإيجاب وقبل معرفة مما لم يقبل به إلا الأخفش، ويلزم من ذلك أيضاً أن يكون جميع الثمرات التي أخرجت رزقاً لنا، وكم شجرة أثمرت ما لا يمكن أن يكون رزقاً وأتى بجمع القلة مع أن الموضع موضع الكثرة فكان المناسب لذلك من الثمار للإيماء إلى أن ما برز في رياض الوجود بفيض مياه الجود كالقليل بل أقل قليل بالنسبة لثمار الجنة، ولما ادخر في ممالك الغيب أو للإشارة إلى أن أجناسها من حيث إن بعضها يؤكل كله وبعضها ظاهره فقط وبعضها باطنه فقط، المشير ذلك إلى ما يشير قليلة لم تبلغ حد الكثرة، وما ذكر الإمام البيضاوي وغيره من أنه ساغ هذا الجمع هنا لأنه أراد بالثمرات جمع ثمرة أريد بها الكثرة كالثمار مثلها في قولك‏:‏ أدركت ثمرة بستانك، وليست التاء للوحدة الحقيقية بل للوحدة الاعتبارية، ويؤيده قراءة ابن السميقع ‏(‏من الثمرة‏)‏ أو لأن الجموع يتعاور بعضها موقع بعض كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏كَمْ تَرَكُواْ مِن جنات‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 5 2‏]‏ و‏{‏ثلاثة قُرُوء‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 8 22‏]‏ أو لأنها لما كانت محلاة باللام خرجت عن حد القلة لا يخلو صفاؤه عن كدر كما يسفر عنه كلام الشهاب، وإذا قيل‏:‏ بأن جمع السلامة المؤنث والمذكر موضوع للكثرة أو مشترك والمقام يخصصه بها اندفع السؤال وارتفع المقال إلا أن ذلك لم يذهب إليه من الناس إلا قليل، والباء من ‏(‏به‏)‏ للسببية، والمشهور عند الأشاعرة أنها سببية عادية في أمثال هذا الموضع فلا تأثير للماء عندهم أصلاً في الإخراج بل ولا في غيره وإنما المؤثر هو الله تعالى عند الأسباب لابها لحديث الاستكمال بالغير، قالوا‏:‏ ومن اعتقد أن الله تعالى أودع قوة الري في الماء مثلاً فهو فاسق وفي كفره قولان، وجمع على كفره كمن قال‏:‏ إنه مؤثر بنفسه فيجب عندهم أن يعتقد المكلف أن الري جاء من جانب المبدأ الفياض بلا واسطة وصادف مجيئه شرب الماء من غير أن يكون للماء دخل في ذلك بوجه من الوجوه سوى الموافقة الصورية، والفقير لا أقول بذلك ولكني أقول‏:‏ إن الله سبحانه ربط الأسباب بمسبباتها شرعاً وقدراً، وجعل الأسباب محل حكمته في أمره الديني الشرعي وأمره الكوني القدري ومحل ملكه وتصرفه، فإنكار الأسباب والقوى جحد للضروريات وقدح في العقول والفطر ومكابرة للحس وجحد للشرع والجزاء، فقد جعل الله تعالى شأنه مصالح العباد في معاشهم ومعادهم، والثواب والعقاب والحدود والكفارات والأوامر والنواهي والحل والحرمة كل ذلك مرتبطاً بالأسباب قائماً بها بل العبد نفسه وصفاته وأفعاله سبب لما يصدر عنه، والقرآن مملوء من إثبات الأسباب، ولو تتبعنا ما يفيد ذلك من القرآن والسنة لزاد على عشرة آلاف موضع حقيقة لا مبالغة، ويالله تعالى العجب إذا كان الله خالق السبب والمسبب وهو الذي جعل هذا سبباً لهذا، والأسباب والمسببات طوع مشيئته وقدرته منقادة، فأي قد يوجب فلا تشبهوه بخلقه فافهم، ويحتمل أن تكون الفاء زائدة مشعرة بالسببية وجملة النهي بتأويل القول خبر عن الذي على جعله مبتدأ، وقيل‏:‏ الجملة متعلقة بالذي، والفاء جزاء شرط محذوف، والمعنى هو الذي جعل لكم ما ذكر من النعم المتكاثرة، وإذا كان كذلك‏:‏ فلا تجعلوا الخ، والجعل هنا بمعنى التصيير وهو كما يكون بالفعل نحو صيرت الحديد سيفاً، ومنه ما تقدم على وجه يكون بالقول والعقد‏.‏

والأنداد جمع ند كعدل أو أعدال أو نديد كيتيم وأيتام والند مثل الشيء الذي يضاده ويخالفه في أموره وينافره ويتباعد عنه وليس من الأضداد على الأصح، وأصله من ند ندوداً إذا نفر، وقيل‏:‏ الند المشارك في الجوهرية فقط، والشكل المشارك في القدر والمساحة، والشبه المشارك في الكيفية فقط، والمساوي في الكمية فقط، والمثل عام في جميع ذلك، وفي تسمية ما يعبده المشركون من دون الله أنداداً والحال أنهم ما زعموا أنها تماثله في ذاته تعالى وصفاته ولا تخالفه في أفعاله‏.‏ وأنما عبدوها لتقربهم إليه سبحانه زلفى إشارة إلى استعارة تهكمية حيث استعير النظير المصادر للمناسب المقرب كما استعير التبشير للإنذار والأسد للجبان، وإن أريد بالند النظير مطلقاً لم يكن هناك تضاد وإنما هو من استعارة أحد المتشابهين للآخر، فإن المشركين جعلوا الأصنام بحسب أفعالهم وأحوالهم مماثلة له تعالى في العبادة، وهي خطة شنعاء وصفة حمقاء في ذكرها ما يستلزم تحميقهم والتهكم بهم، ولعل الأول أولى، وفي الإتيان بالجمع تشنيع عليهم حيث جعلوا ‏{‏أَندَاداً‏}‏ لمن يستحيل أن يكون له ند واحد، ولله در موحد الفترة زيد بن عمر بن نفيل رضي الله تعالى عنه حيث يقول في ذلك‏:‏

أرباً واحداً أم ألف رب *** أدين إذا تقسمت الأمور

تركت اللات والعزى جميعا *** كذلك يفعل الرجل البصير

‏{‏وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ‏}‏ حال من ضمير ‏(‏لا تجعلوا‏)‏ والمفعول مطروح أي‏:‏ وحالكم أنكم من أهل العلم والمعرفة والنظر وإصابة الرأي فإذا تأملتم أدنى تأمل علمتم وجود صانع يجب توحيده في ذاته وصفاته لا يليق أن يعبد سواه، أو مقدر حسبما يقتضيه المقام ويسد مسد مفعولي العلم، أي‏:‏ تعلمون أنه سبحانه لا يماثله شيء، أو أنها لا تماثله ولا تقدر على مثل ما يفعله، والحال على الوجه الأول للتوبيخ أو التقييد إذ العلم مناط التكليف ولا تكليف عند عدم الإهلية، وعلى الوجه الثاني للتوبيخ لا غير لأن قيد الحكم تعليق العلم بالمفعول، ومناط التكليف العلم فقط والتوبيخ باعتبار أفراد المخاطبين بالنهي بناء على عموم الخطاب حسبما مر في الأمر فلا يستدعي تخصيص الخطاب بالكفرة على أنه لا بأس بالتخصيص بهم أمراً ونهياً بل قيل‏:‏ إنه أولى للخلاص من التكلف وحسن الانتظام إذ لا محيص في ظاهر آية التحدي من تجريد الخطاب وتخصيصه بالكفرة مع ما فيه من رباء محل المؤمنين ورفع شأنهم عن حيز الانتظام في سلك الكفرة اللئام والإيذان بأنهم مستمرون على الطاعة والعبادة مستغنون في ذلك عن الأمر والنهي فتأمل‏.‏

وقد تضمنت هذه الآيات من بدائع الصنعة ودقائق الحكمة وظهور البراهين ما اقتضى أنه تعالى المنفرد بالإيجاد المستحق للعبادة دون غيره من الأنداد التي لا تخلق ولا ترزق وليس لها نفع ولا ضر ‏{‏أَلاَ لَهُ الخلق والامر‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 4 5‏]‏ ومن باب الإشارة أنه تعالى مثل البدن بالأرض، والنفس بالسماء، والعقل بالماء، وما أفاض على القوابل من الفضائل العلمية والعملية المحصلة بواسطة استعمال العقل والحس، وازدواج القوى النفسانية والبدنية بالثمرات المتولدة من ازدواج القوى السماوية الفاعلة والأرضية المنفعلة بإذن الفاعل المختار، وقد يقال‏:‏ إنه تعالى لما امتن عليهم بأنه سبحانه خلقهم والذين من قبلهم ذكر ما يرشدهم إلى معرفة كيفية خلقهم فجعل الأرض التي هي فراش مثل الأم التي يفترشها الرجل، وهي أيضاً تسمى فراشاً، وشبه السماء التي علت على الأرض بالأب الذي يعلو على الأم ويغشاها، وضرب الماء النازل من السماء مثلاً للنطفة التي تنزل من صلب الأب وضرب ما يخرج من الأرض من الثمرات مثلاً للولد الذي يخرج من الأم، كل ذلك ليؤنس عقولهم ويرشدها إلى معرفة كيفية التخليق ويعرفها أنه الخالق لهذا الولد والمخرج له من بطن أمه كما أنه الخالق للثمرات ومخرجها من بطون أشجارها ومخرج أشجارها من بطن الأرض، فإذا وضح ذلك لهم أفردوه بالألوهية وخصوه بالعبادة وحصلت لهم الهداية‏:‏

تأمل في رياض الأرض وانظر *** إلى آثار ما صنع المليك

عيون من لجين شاخصات *** على أهدابها ذهب سبيك

على قضب الزبرجد شاهدات *** بأن الله ليس له شريك

تفسير الآية رقم ‏[‏23‏]‏

‏{‏وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِن كُنتُمْ فِى رَيْبٍ مّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّن مِّثْلِهِ‏}‏ لما قرر سبحانه أمر توحيده بأحسن أسلوب عقبه بما يدل على تصديق رسوله صلى الله عليه وسلم، والتوحيد والتصديق توأمان لا ينفك أحدهما عن الآخر، فالآية وإن سيقت لبيان الإعجاز إلا أن الغرض منه إثبات النبوة، وفي التعقيب إشارة إلى الرد على التعليمية الذين جعلوا معرفة الله تعالى مستفادة من معرفة الرسول، والحشوية القائلين بعدم حصول معرفته سبحانه إلا من القرآن والأخبار، والعطف إما على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اعبدوا رَبَّكُمُ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 21‏]‏ وعلى ‏{‏فَلاَ تَجْعَلُواْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 22‏]‏ وتوجيه الربط بأنه لما أوجب سبحانه وتعالى العبادة ونفي الشرك بإزاء تلك الآيات والانقياد لها لا يمكن بدون التصديق بأنها من عنده سبحانه أرشدهم بما يوجب هذا العلم، ولذا لم يقل جل شأنه وإن كنتم في ريب من رسالة عبدنا غير وجيه إذ يصير عليه البرهان العقلي سميعاً ولو أريد ذلك لكفى اعبدوا، ولاتشركوا من دون تفصيل الأدلة الأنفسية والآفاقية، والظاهر أن الخطاب هنا للكفار وهو المروي عن الحسن، وقيل لليهود لما أن سبب النزول كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم قالوا هذا الذي يأتينا به محمد صلى الله عليه وسلم لا يشبه الوحي ‏{‏وَإِنَّا لَفِى شَكّ مِنْهُ‏}‏ وقيل‏:‏ هو على نحو الخطاب في ‏{‏اعبدوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 1 2‏]‏ وكلمة ‏{‏ءانٍ‏}‏ إما للتوبيخ على الارتياب وتصوير أنه مما لا ينبغي أن يثبت إلا على سبيل الفرض لاشتمال المقام على ما يزيله، أو لتغليب من لا قطع بارتيابهم على من سواهم، أو لأن البعض لما كان مرتاباً والبعض غير مرتاب جعل الجميع كأنه لا قطع بارتيابهم ولا بعدمه وجعلها بمعنى إذا كما ادعاه بعض المفسرين خلاف مذهب المحققين وإيراد كلمة كان لإبقاء معنى المضي فانها لتمحضها للزمان لا تقبلها إن إلى معنى الاستقبال كما ذهب إليه المبرد وموافقوه والجمهور على أنها كسائر الأفعال الماضية، وقدر بعضهم بينها وبين إن يكن، أو تبين مثلاً ولا يميل إليه الفؤاد، وتنكير الريب للاشعار بأن حقه إن كان أن يكون ضعيفاً قليلاً لسطوع ما يدفعه وقوة ما يزيله، وجعله ظرفاً بتنزيل المعاني منزلة الأجرام واستقرارهم فيه وإحاطته بهم لا ينافي اعتبار ضعفه وقلته لما أن ما يقتضيه ذلك هو دوام ملابستهم به لا قوته وكثرته، و‏(‏ من‏)‏ ابتدائية صفة ‏{‏رَيْبَ‏}‏ ولا يجوز أن تكون للتبعيض وحملها على السببية ربما يوهم كون المنزل محلاً للريب وحاشاه، و‏(‏ ما‏)‏ موصولة كانت أو موصوفة عبارة عن الكتاب، وقيل‏:‏ عن القدر المشترك بينه وبين أبعاضه‏.‏ ومعنى كونهم في ريب منه ارتيابهم في كونه وحياً من الله تعالى شأنه، والتضعيف في ‏{‏نَزَّلْنَا‏}‏ للنقل وهو المرادف للهمزة، ويؤيد ذلك قراءة زيد بن قطيب ‏(‏أنزلنا‏)‏ وليس التضعيف هنا دالاً على نزوله منجماً ليكون إيثاره على الإنزال لتذكير منشأ ارتيابهم فقد قالوا‏:‏

‏{‏لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ القرءان جُمْلَةً واحدة‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 2 3‏]‏ وبناء التحدي عليه إرخاء للعنان كما ذهب إليه الكثير ممن يعقد عند ذكرهم الخناصر لأن ذلك قول بدلالة التضعيف على التكثير وهو إنما يكون غالباً في الأفعال التي تكون قبل التضعيف متعدية نحو فتحت وقطعت، و‏(‏ نزلنا‏)‏ لم يكن معتدياً قبل، وأيضاً التضعيف الذي يراد به التكثير إنما يدل على كثرة وقوع الفعل وأما على أنه يجعل اللازم متعدياً فلا، والفعل هنا كان لازماً فكون التعدي مستفاداً من التضعيف دليل على أنه للنقل لا للتكثير، وأيضاً لو كان نزل مفيداً للتنجيم لاحتاج قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ القرءان جملة واحدة‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 32‏]‏ إلى تأويل، لمنافاة العجز الصدر، وكذا مثل ‏{‏وَلولاَ نُزّلَ عَلَيْهِ ءايَةٌ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 7 3‏]‏ و‏{‏لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مّنَ السماء مَلَكًا رَّسُولاً‏}‏ ‏[‏الإسرار‏:‏ 5 9‏]‏ وقد قرىء بالوجهين في كثير مما لا يمكن فيه التنجيم والتكثير وجعل هذا غير التكثير المذكور في النحو وهو التدريج بمعنى الاتيان بالشيء قليلاً قليلاً كما ذكروه في تسللوا حيث فسروه بأنهم يتسللون قليلاً قليلاً قالوا‏:‏ ونظيره تدرج وتدخل ونحوه رتبه أي أتى به رتبة رتبة ولم يوجد غير ذلك، فحينئذ تكون صيغة فعل بعد كونها للنقل دالة على هذا المعنى إما مجازاً أو اشتراكاً فلا يلزم اطراده بعيد لا سيما مع خفاء القرينة، وفي تعدي ‏(‏نزل‏)‏ بعلى إشارة إلى استعلاء المنزل على المنزل عليه وتمكنه منه وأنه صار كاللابس له بخلاف إلى إذ لا دلالة لها على أكثر من الانتهاء والوصول‏.‏ وفي ذكره صلى الله عليه وسلم بعنوان العبودية مع الإضافة إلى ضمير الجلالة تنبيه على عظم قدره واختصاصه به وانقياده لأوامره، وفي ذلك غاية التشريف والتنويه بقدره صلى الله عليه وسلم‏:‏

لا تدعني إلا بيا عبدها *** فإنه أشرف أسمائي

وقرىء ‏(‏عبادنا‏)‏ فيحتمل أنه أريد بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته لأن جدوى المنزل والهداية الحاصلة به لا تختص بل يشترك فيها المتبوع والتابع فجعل كأنه نزل عليهم، ويحتمل أنه أريد به النبيون الذين أنزل عليهم الوحي والرسول صلى الله عليه وسلم أول مقصود وأسبق داخل لأنه الذي طلب معاندوه بالتحدي في كتابه، وفيه إيذان بأن الارتياب فيه، ارتياب فيما أنزل من قبله لكونه مصدقاً له ومهيمناً عليه، وبعضهم جعل الخطاب على هذا لمنكري النبوات الذين حكى الله تعالى عنهم بقوله‏:‏ ‏{‏وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مّن شَىْء‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 1 9‏]‏ وفي الآية التفات من الغائب إلى ضمير المتكلم وإلا لقال سبحانه مما نزل على عبده لكنه عدل سبحانه إلى ذلك تفخيماً للمنزل أو المنزل عليه لا سيما وقد أتى ب ‏(‏ن‏)‏ المشعرة بالتعظيم التام وتفخيم الأمر رعاية لرفعة شأنه عليه الصلاة والسلام، والفاء من ‏{‏فَاتُواْ‏}‏ جوابية وأمر السببية ظاهر، والأمر من باب التعجيز وإلقام الحجر كما في قوله تعالى‏:‏

‏{‏فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 258‏]‏ وهو من الإتيان بمعنى المجيء بسهولة كيفما كان، ويقال في الخير والشر والاعيان والاعراض، ثم صار بمعنى الفعل والتعاطي ك ‏{‏لاَ يَأْتُونَ الصلاة إلا وهم كسالى‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 4 5‏]‏ وأصل ‏{‏فَاتُواْ‏}‏ فأتيوا فأعل الإعلال المشهور، وأتى شذوذاً حذف الفاء فقيل ‏(‏ت وتوا‏)‏ والتنوين في ‏(‏سورة‏)‏ للتنكير أي ائتوا بسورة ما وهي القطعة من القرآن التي أقلها ثلاث آيات، وفيه من التبكيت والتخجيل لهم في الارتياب ما لا يخفى‏.‏ و‏{‏مّن مّثْلِهِ‏}‏ إما أن يكون ظرفاً مستقراً صفة لسورة والضمير راجع إما ل ‏(‏ما‏)‏ التي هي عبارة عن المنزل أو للعبد وعلى الأول يحتمل أن تكون من للتبعيض أو للتبيين، والأخفش يجوز زيادتها في مثله، والمعنى بسورة مماثلة للقرآن في البلاغة والأسلوب المعجز وهذا على الأخيرين ظاهر، وأما على التبعيض فلأنه لم يرد بالمثل مثل محقق معين للقرآن بل ما يماثله فرضاً كما قيل‏:‏ في مثلك لا يجهل، ولا شك أن بعضيتها للمماثل الفرضي لازمة لمماثلتها للقرآن فذكر اللازم وأريد الملزوم سلوكاً لطريق الكناية مع ما في لفظ ‏(‏من‏)‏ التبعيضية الدالة على القلة من المبالغة المناسبة لمقام التحدي، وبهذا رجح بعضهم التبعيض على التبيين مع ما في التبيين من التصريح بما علم ضمناً حيث إن المماثلة للقرآن تفهم من التعبير بالسورة إلا أنه مؤيد بما يأتي، وعلى الثاني يتعين أن تكون ‏(‏من‏)‏ للإبتداء مثلها في ‏{‏إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 0 3‏]‏ ويمتنع التبعيض والتبيين والزيادة امتناع الابتداء في الوجه الأول، وإما أن تكون صلة ‏{‏فَاتُواْ‏}‏‏.‏

والشائع أنه يتعين حينئذ عود الضمنير للعبد لأن ‏(‏من‏)‏ لا تكون بيانية إذ لا مبهم، ولكونه مستقراً أبداً لا تتعلق بالأمر لغواً ولا تبعيضية وإلا لكان الفعل واقعاً عليه حقيقة كما في أخذت من الدراهم ولا معنى لإتيان البعض بل المقصد الاتيان بالبعض، ولا مجال لتقدير الباء مع وجود ‏(‏من‏)‏ ولأنه يلزم أن يكون ‏{‏بِسُورَةٍ‏}‏ ضائعاً فتعين أن تكون ابتدائية، وحينئذ يجب كون الضمير للعبد لا للمنزل، وجعل المتكلم مبدأ عرفاً للاتيان بالكلام منه معنى حسن مقبول بخلاف جعل الكل مبدأ للاتيان ببعض منه فإنه لا يرتضيه ذو فطرة سليمة، وأيضاً المعتبر في مبدأ الفعل هو المبدأ الفاعلي أو المادي، أو الغائي، أو جهة يتلبس بها وليس الكل بالنسبة إلى الجزء شيئاً من ذلك، وعليه يكون اعتبار مماثلة المأتي به للقرآن في البلاغة مستفاداً من لفظ السورة، ومساق الكلام بمعونة المقام‏.‏

واعترض بأن معنى ‏(‏من‏)‏ لا ينحصر فيما ذكر فقد تجيء للبدل نحو ‏{‏أرضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة‏}‏ ‏[‏التوبه‏:‏ 8 3‏]‏ ‏{‏لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلَئِكَةً‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 0 6‏]‏ وللمجاوزة كعذت منه، فعلى هذا لو علق ‏{‏مّن مّثْلِهِ‏}‏ بـ ‏{‏فَاتُواْ‏}‏ وحمل ‏(‏من‏)‏ على البدل أو المجاوزة ومثل على المقحم ورجع الضمير إلى ‏{‏مَا أَنَزَلْنَا‏}‏ على معنى‏:‏ فأتوا بدل ذلك الكتاب العظيم شأنه، الواضح برهانه أو مجاوزين من هذا الكتاب مع فخامة أثره وجلالة قدره بسورة فذة لكان أبلغ في التحدي وأظهر في الإعجاز، على أن عدم صحة شيء مما اعتبر في المبدأ ممنوع فإن الملابسة بين الكل والبعض أقوى منها بين المكان والمتمكن، فكما يجوز جعل المكان مبدأ الفعل المتمكن يجوز أن يجعل الكل مبدأ للإتيان بالبعض، ولعل من قال ذلك لم يطرق سمعه قول سيبويه‏:‏ وبمنزلة المكان ما ليس بمكان ولا زمان نحو قرأت من أول السورة إلى آخرها، وأعطيتك من درهم إلى دينار وأيضاً فالاتيان ببعض الشيء تفريقه منه، ولا يستراب أن الكل مبدأ تفريق البعض منه، ويمكن أن يقال وهو الذي اختاره مولانا الشهاب أن المراد من الآية التحدي وتعجيز بلغاء العرب المرتابين فيه عن الإتيان بما يضاهيه، فمقتضى المقام أن يقال لهم‏:‏ معاشر الفصحاء المرتابين في أن القرآن من عند الله ائتوا بمقدار أقصر سورة من كلام البشر محلاة بطراز الإعجاز ونظمه، وما ذكر يدل على هذا إذا كان من مثله صفة سورة سواء كان الضمير لما أو للعبد لأن معناه ائتوا بمقدار سورة تماثله في البلاغة كائنة من كلام أحد، مثل هذا العبد في البشرية فهو معجز للبشر عن الإتيان بمثله أو ائتوا بمقدار سورة من كلام هو مثل هذا المنزل ومثل الشيء غيره فهو من كلام البشر أيضاً، فإذا تعلق ورجع الضمير للعبد فمعناه أيضاً ائتوا من مثل هذا العبد في البشرية بمقدار سورة تماثله فيفيد ما ذكرنا، ولو رجع على هذا لما كان معناه ائتوا من مثل هذا المنزل بسورة، ولا شك أن ‏(‏من‏)‏ ليست بيانية لأنها لا تكون لغواً ولا تبعيضية لأن المعنى ليس عليه فهي ابتدائية والمبدأ ليس فاعلياً بل مادياً، فحينئذ المثل الذي السورة بعض منه لم يؤمر بالإتيان به، فلا يخلو من أن يدعى وجوده وهو خلاف الواقع وابتناؤه على الزعم أو الفرض تعسف بلا مقتضىٍ أولاً ولا يليق بالتنزيل، وكيف يأتون ببعض من شيء لا وجود له‏؟‏ا والحق عندي أن رجوع الضمير إلى كل من العبد، و‏(‏ ما‏)‏ على تقديري اللغو والاستقرار أمر ممكن، ودائرة التأويل واسعة والاستحسان مفوض إلى الذوق السليم، والذي يدركه ذوقي ولا أزكى نفسي أنه على تقدير التعلق يكون رجوع الضمير إلى العبد أحلى، والبحث في هذه الآية مشهور، وقد جرى فيه بين العضد والجار بردي ما أدى إلى تأليف الرسائل في الانتصار لكل‏.‏

وقد وفقت للوقوف على كثير منها والحمد لله، ونقلت نبذة منها في «الأجوبة العراقية» ثم أولى الوجوه هنا على الإطلاق جعل الظرف صفة للسورة والضمير للمنزل و‏{‏مِنْ‏}‏ بيانية، أما أولاً‏:‏ فلأنه الموافق لنظائره من آيات التحدي كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مّثْلِهِ‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 38‏]‏ لأن المماثلة فيها صفة للمأتى به، وأما ثانياً‏:‏ فلأن الكلام في المنزل لا المنزل عليه وذكره إنما وقع تبعاً ولو عاد الضمير إليه ترك التصريح بمماثلة السورة وهو عمدة التحدي وإن فهم، وأما ثالثاً‏:‏ فلأن أمر الجم الغفير لأن يأتوا من مثل ما أتى به واحد من جنسهم أبلغ من أمرهم بأن يجدوا أحداً يأتي ما أتى به رجل آخر، وأما رابعاً‏:‏ فلأنه لو رجع الضمير للعبد لأوهم أن إعجازه لكونه ممن لم يدرس ولم يكتب لا أنه في نفسه معجز مع أن الواقع هذا، وبعضهم رجح رد الضمير إلى العبد صلى الله عليه وسلم باشتماله على معنى مستبدع مستجد وبأنه الكلام مسوق للمنزل عليه إذ التوحيد والتصديق بالنبوة توأمان، فالمقصود إثبات النبوة والحجة ذريعة فلا يلزم من الافتتاح بذكر ما نزلنا أن يكون الكلام مسوقاً له وبأن التحدي على ذلك أبلغ، لأن المعنى اجتمعوا كلكم وانظروا هل يتيسر لكم الإتيان بسورة ممن لم يمارس الكتب ولم يدارس العلوم‏؟‏ا وضم بنات أفكار بعضهم إلى بعض معارض بهذه الحجة بل هي أقوى في الإفحام إذ لا يبعد أن يعارضوه بما يصدر عن بعض علمائهم مما اشتمل على قصص الأمم الخالية المنقولة من الكتب الماضية وإن كان بينهما بون إذ الغريق يتشبث بالحشيش، وأما إذا تحدى بسورة من أميّ كذا وكذا لم يبق للعوارض مجال، هذا ولا يخفى أنه صرح ممرد ونحاس مموه، وظاهر السياق يؤيد ما قلنا ويلائمه ظاهراً كما سنبينه بمنه تعالى

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وادعوا شُهَدَاءكُم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏‏.‏

الدعاء النداء والاستعانة، ولعل الثاني مجاز أو كناية مبنية على النداء لأن الشخص إنما ينادى ليستعان به، ومنه ‏{‏أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 0 4‏]‏ والشهداء جمع شهيد أو شاهد، والشهيد كما قال الراغب‏:‏ كل من يعتد بحضوره ممن له الحل والعقد، ولذا سموا غيره مخلفاً وجاء بمعنى الحاضر، والقائم بالشهادة والناصر والإمام أيضاً‏.‏ و‏{‏دُونِ‏}‏ ظرف مكان لا ينصرف ويستعمل ‏(‏بمن‏)‏ كثيراً وبالباء قليلاً، وخصه في «البحر» بمن ‏(‏دونها‏)‏ ورفعه في قوله‏:‏

ألم تريا أني حميت حقيقتي *** وباشرت حد الموت والموت دونها

نادر لا يقاس عليه ومعناها أقرب مكان من الشيء فهو كعند إلا أنها تنبىء عن دنو كثير وانحطاط يسير، ومنه دونك اسم فعل لا تدوين الكتب خلافاً للبيضاوي كما قيل لأنه من الديوان الدفتر ومحله، وهي فارسي معرب من قول كسرى إذ رأى سرعة الكتاب في كتابتهم وحسابهم ديوانه‏.‏ وقد يقال لا بعد فيما ذكره البيضاوي وديوان مما اشتركت فيه اللغتان، وقد استعمل في انحطاط محسوس لا في ظرف كدون زيد في القامة ثم استعير للتفاوت في المراتب المعنوية تشبيهاً بالمراتب الحسية كدون عمرو شرفاً ولشيوع ذلك اتسع في هذا المستعار فاستعمل في كل تجاوز حد إلى حد ولو من دون تفاوت وانحطاط، وهو بهذا المعنى قريب من غير فكأنه أداة استثناء، ومن الشائع دون بمعنى خسيس فيخرج عن الظرفية ويعرف بأل ويقطع عن الإضافة كما في قوله‏:‏

إذا ما علا المرء راح العلا *** ويقنع ‏(‏بالدون‏)‏ من كان دونا

ومافي «القاموس» من أنه يقال رجل من دون، ولا يقال دون مخالف للدراية والرواية، وليس عندي وجه وجيه في توجيهه، والمشهور أنه ليس لهذا فعل، وقيل يقال‏:‏ دان يدين منه واستعماله بمعنى فضلاً وعليه حمل قول أبي تمام‏:‏

الود للقربى ولكن عرفه *** للأبعد الأوطان ‏(‏دون‏)‏ الأقرب

لم يسلمه أرباب التنقير نعم قالوا‏:‏ يكون بمعنى وراء كأمام وبمعنى فوق ونقيضاً له‏.‏ و‏(‏ من‏)‏ لابتداء الغاية متعلقة بادعوا، ودون تستعمل بمعنى التجاوز في محل النصب على الحال، والمعنى ادعوا إلى المعارضة من يحضركم أو من ينصركم بزعمكم متجاوزين الله تعالى في الدعاء بأن لا تدعوه، والأمر للتعجيز والإرشاد أو ادعوا من دون الله من يقيم لكم الشهادة بأن ما أتيتم به مماثله فإنه لا يشهدون، ولا تدعوا الله تعالى للشهادة بأن تقولوا الله تعالى شاهد وعالم بأنه مثله فإن ذلك علامة العجز والانقطاع عن إقامة البينة والأمر حينئذ للتبكيت والشهيد على الأول بمعنى الحاضر، وعلى الثاني بمعنى الناصر، وعلى الثالث بمعنى القائم بالشهادة، قيل‏:‏ ولا يجوز أن يكون بمعنى الإمام بأن يكون المراد بالشهداء الآلهة الباطلة لأن الأمر بدعاء الأصنام لا يكون إلا تهكماً، ولو قيل‏:‏ ادعوا الأصنام ولا تدعوا الله تعالى ولا تستظهروا به لانقلب الأمر من التهكم إلى الامتحان إذ لا دخل لإخراج الله تعالى عن الدعاء في التهكم، وفيه أن أيّ تهكم وتحميق أقوى من أن يقال لهم استعينوا بالجماد ولا تلتفتوا نحو رب العباد‏؟‏ ولا يجوز حينئذ أن تجعل دون بمعنى القدام إذ لا معنى لأن يقال ادعوها بين يدي الله تعالى أي في القيامة للاستظهار بها في المعارضة التي في الدنيا، وجوزوا أن تتعلق من بـ ‏{‏شُهَدَاءكُمُ‏}‏ وهي للابتداء أيضاً، و‏{‏دُونِ‏}‏ بمعنى التجاوز في محل النصب على الحال والعامل فيه معنى الفعل المستفاد من إضافة الشهداء أعني الاتخاذ، والمعنى ادعوا الذين اتخذتموهم أولياء من دون الله تعالى، وزعمتم أنها تشهد لكم يوم القيامة، ويحتمل أن يكون ‏{‏دُونِ‏}‏ بمعنى أمام حقيقة أو مستعاراً من معناه الحقيقي الذي يناسبه أعني به أدنى مكان من الشيء وهو ظرف لغو معمول لشهداء ويكفيه رائحة الفعل فلا حاجة إلى الاعتماد ولا إلى تقدير ليشهدوا، و‏(‏ من‏)‏ للتبعيض كما قالوا في‏:‏

‏{‏مّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 11‏]‏ لأن الفعل يقع في بعض الجهتين، وظاهر كلام الدماميني في «شرح التسهيل»‏:‏ أنها زائدة، وهو مذهب ابن مالك، والجمهور على أنها ابتدائية، والمعنى ادعوا الذين يشهدون لكم بين يدي الله عز وجل على زعمكم، والأمر للتهكم، وفي التعبير عن الأصنام بالشهداء ترشيح له بتذكير ما اعتقدوه من أنها من الله تعالى بمكان، وأنها تنفعهم بشهادتهم كأنه قايل‏:‏ هؤلاء عدتكم وملاذكم فادعوهم لهذه العظيمة النازلة بكم فلا عطر بعد عروس، وما وراء عبادان قرية ولم تجعل ‏{‏دُونِ‏}‏ بمعنى التجاوز لأنهم لا يزعمون شركته تعالى مع الأصنام في الشهادة فلا وجه للإخراج، وقيل يجوز أن تكون ‏{‏مِنْ‏}‏ للابتداء والظرف حال ويحذف من الكلام مضاف، والمعنى‏:‏ ادعوا شهداءكم من فصحاء العرب وهم أولياء الأصنام متجاوزين في ذلك أولياء الله ليشهدوا لكم أنكم أتيتم بمثله، والمقصود بالأمر حينئذ إرخاء العنان والاستدراج إلى غاية التبكيت كأنه قيل‏:‏ تركنا إلزامكم بشهداء الحق إلى شهدائكم المعروفين بالذب عنكم فإنهم أيضاً لا يشهدون لكم حذاراً من اللائمة وأنفة من الشهادة ألبتة البطلان، كيف لا وأمر الإعجاز قد بلغ من الظهور إلى حيث لم يبق إلى إنكاره سبيل‏؟‏ وإخراج الله تعالى على بعض الوجوه لتأكيد تناول المستثنى منه بجميع ما عداه لا لبيان استبداده تعالى بالقدرة على ما كلفوه لإيهامه أنهم لو دعوه تعالى لأجابهم إليه وعلى بعض للتصريح من أول الأمر ببراءتهم منه تعالى وكونهم في عروة المحادة والمشاقة له قاصرين استظهارهم على ما سواه، والالتفات إما لإدخال الروع وتربية المهابة أو للإيذان بكمال سخافة عقولهم حيث آثروا على عبادة من له الألوهية الجامعة عبادة من لا أحقر منه والصدق مطابقة الواقع والمذاهب فيه مشهورة، وجواب ‏{‏ءانٍ‏}‏ محذوف لدلالة الأول عليه وليس هو جواباً لهما، وكذا متعلق الصدق أي‏:‏ إن كنتم صادقين بزعمكم في أنه كلام البشر أوفي أنكم تقدرون على معارضته فأتوا، وادعوا فقد بلغ السيل الزبى، وهذا كالتكرير للتحديد والتأكيد له، ولذا ترك العطف وجعل المتعلق الارتياب لتقدمه مما لا ارتياب في تأخره لأن الارتياب من قبيل التصور الذي لا يجري فيه صدق ولا كذب، والقول بأن المراد‏:‏ إن كنتم صادقين في احتمال أنه كذا مع ما فيه من التكلف لا يجدي نفعاً لأن الاحتمال شك أيضاً، ومن التكلف بمكان قول الشهاب‏:‏ إن المراد من النظم الكريم الترقي في إلزام الحجة، وتوضيح المحجة، فالمعنى إن ارتبتم فأتوا بنظيره ليزول ريبكم ويظهر أنكم أصبتم فيما خطر على بالكم وحينئذ فإن صدقت مقالتكم في أنه مفتري فأظهروها ولا تخافوا هذا، ووجه ملائمة الآية لما قلناه في الآية السابقة أنه سبحانه وتعالى أمرهم بالاستعانة إما حقيقة أو تهكماً بكل ما يعينهم بالإمداد في الإتيان في المثل أو بالشهادة على أن المأتي به مثل ولا شك أن ذلك إنما يلائم إذا كانوا مأمورين بالإتيان بالمثل بخلاف ما إذا كان المأمور واحداً منهم فإنهم باعثون له على الاتيان فالملائم حينئذ نسبة الشهداء إليه لأنهم شهداء له، وإن صح نسبته إليهم باعتبار مشاركتهم إياه في تلك الدعوى بالتحريك والحث والقول بأنهم مشاركون للمأتي منه في دعوى المماثلة ليس بشيء لأنه شهادة على المماثلة ثم ترجيح رجوع الضمير للمنزل يقتضي ترجيح كون الظرف صفة للسورة أيضاً، وقد أورد ههنا أمور طويلة لا طائل تحتها‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏24‏]‏

‏{‏فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ ‏(‏24‏)‏‏}‏

‏{‏فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فاتقوا النار التى وَقُودُهَا الناس والحجارة‏}‏ فذلكة لما تقدم فلذا أتى بالفاء أي إذا بذلتم في السعي غاية المجهود وجاوزتم في الحد كل حد معهود متشبثين بالذيول راكبين متن كل صعب وذلول وعجزتم عن الإتيان بمثله وما يداينه في أسلوبه وفضله ظهر أنه معجز والتصديق به لازم فآمنوا واتقوا النار، وأتى بأن والمقام لاذا لاستمرار العجز وهو سبحانه وتعالى اللطيف الخبير تهكماً بهم كما يقول الواثق بالغلبة لخصمه إن غلبتك لم أبق عليك، وتحميقاً لهم لشكهم في المتيقن الشديد الوضوح، ففي الآية استعارة تهكمية تبعية حرفية أو حقيقة وكناية كسائر ما جاء على خلاف مقتضى الظاهر، وقد يقال عبر بذلك نظراً لحال المخاطبين فإن العجز كان قبل التأمل كالمشكوك فيه لديهم لاتكالهم على فصاحتهم، و‏{‏تَفْعَلُواْ‏}‏ مجزوم بلم ولا تنازع بينها وبين ‏{‏ءانٍ‏}‏، وإن تخيل، وقد صرح ابن هشام بأنه لا يكون بين الحروف لأنها لا دلالة لها على الحدث حتى تطلب المعمولات إلا أن ابن العلج أجازه استدلالاً بهذه الآية، وردّ بأن ‏(‏إن‏)‏ تطلب مثبتاً، و‏(‏ لم‏)‏ منفياً، وشرط التنازع الاتحاد في المعنى فإن هنا داخلة على المجموع عاملة في محله كأنه قال‏:‏ فإن تركتم الفعل، فيفيد الكلام استمرار عدم الاتيان المحقق في الماضي وبهذا ساغ اجتماعهما وإلا فبين مقتضاهما الاستقبال والمضي تناف، نعم قيل في ذلك إشكال لم يحرر دفعه بعد بما يشفي العليل‏:‏ وهو أن المحل إن كان للفعل وحده لزم توارد عاملين في نحو إن لم يقمن وإن كان للجملة يرد أنهم لم يعدوها مما لها محل أو للمحل مع الفعل فلا نظير له فلعلهم يتصيدون فعلاً مما بعدها ويجزمونه بها وهو كما ترى، وعبر سبحانه عن الفعل الخاص حيث كان الظاهر فإن لم تأتوا بسورة من مثله بالفعل المطلق العام ظاهراً لإيجاز القصر، وفيه إيذان بأن المقصود بالتكليف إيقاع نفس الفعل المأمور به لإظهار عجزهم عنه لا تحصيل المفعول ضرورة استحالته، وإن مناط الجواب في الشرطية أعني الأمر بالاتقاء هو عجزهم عن إيقاعه لافوت حصول المقصود، وقيل‏:‏ أطلق الفعل وأريد به الإتيان مع ما يتعلق به على طريقة ذكر اللازم وإرادة الملزوم لما بينهما من التلازم المصحح للانتقال بمعونة قرائن الحال، أو على طريقة التعبير عن الأسماء الظاهرة بالضمائر الراجعة إليها حذراً من التكرير، والظاهر أن فيما عبر به إيجازاً وكناية وإيهام نفي الإتيان بالمثل وما يدانيه بل وغيره، وإن لم يكن مراداً ‏(‏ولن‏)‏ كلا في نفي المستقبل وإن فارقتها بالاختصاص بالمضارع، وعمل النصب إلا فيما شذ من الجزم بها في قوله‏:‏

‏(‏ لن‏)‏ يخب الآن من رجالك ومن *** حرك من دون بابك الحلقة

ولا تقتضي النفي على التأبيد وإن أفادت التأكيد والتشديد ولا طول مدة أو قلتها خلافاً لبعضهم، وليس أصلها ‏(‏لا أن‏)‏ كما روي عن الخليل فحذفت الهمزة لكثرتها وسقطت الألف للساكنين وتغير الحكم وصار ‏(‏لن‏)‏ تضرب كلاماً تاماً دون أن ومصحوبها، وقيل به لقوله‏:‏

يرجى المرء ما ‏(‏لا أن‏)‏ يلاقيه *** ويعرض دون أقربه الخطوب

واحتمال زيادة أن يوهن الاحتجاج ولا لا كما عند الفراء فأبدلت ألفه نوناً إذ لا داعي إلى ذلك وهو خلاف الأصل، والجملة اعتراض بين جزئي الشرطية ظاهراً مقرر لمضمون مقدمها ومؤكد لإيجاد العمل بتاليها وهذه معجزة باهرة حيث أخبر بالغيب الخاص علمه به سبحانه وقد وقع الأمر كذلك، كيف لا ولو عارضوه بشيء يدانيه لتناقله الرواة لتوفر الدواعي‏؟‏ وما أتى به نحو مسيلمة الكذاب مما تضحك منه الثكلى لما يقصد به المعارضة وإنما ادعاه وحياً‏.‏ وقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏فاتقوا‏}‏ جواب للشرط على أن اتقاء النار كناية عن ظهور إعجازه المقتضي للتصديق والإيمان به أو عن الإيمان نفسه، وبهذا يندفع ما يتوهم من أن اتقاء النار لازم من غير توقف على هذا الشرط فما معنى التعليق، وأيضاً الشرط سبب أو ملزوم للجزاء، وليس عدم الفعل سبباً للاتقاء ولا ملزوماً له فكيف وقع جزاء له، وبعضهم قدر لذلك جواباً، والتزمه جملة خبرية لأن الإنشائية لا تقع جزاء كما لا تقع خبراً إلا بتأويل، والزمخشري لا يوجب ذلك فيها لعدم الحمل المقتضي له، والوقود بالفتح كما قرأ به الجمهور ما يوقد به النار، وكذا كل ما كان على فعول اسم لما يفعل به في المشهور، وقد يكون مصدراً عند بعض، وحكوا ولوعاً، وقبولاً، ووضوءاً، وطهوراً، ووزوعاً، ولغوباً‏.‏ وقرأ عبيد بن عمير ‏(‏وقيدها‏)‏ وعيسى بن عمير وغيرها ‏{‏وَقُودُهَا‏}‏ بالضم‏.‏ فإن كان اسماً لما يوقد به كالمفتوح فذاك وإن كان مصدراً كما قيل في سائر ما كان على فعول فحمله على النار للمبالغة أو للتجوز فيه أو في التشبيه أو بتقدير مضاف أولاً‏:‏ كذو وقودها أو ثانياً‏:‏ كاحتراق وهو نفسه خارجاً غير مفهوماً وذاك مصداق الحمل، وحكي أن من العرب من يجعل المفتوح مصدراً والمضموم اسماً فينعكس الحال فيما نحن فيه‏.‏ والحجارة كحجار جمع كثرة لحجر، وجمع القلة أحجار وجمع فعل بفتحتين على فعال شاذ، وابن مالك في «التسهيل» يقول‏:‏ إنه اسم جمع لغلبة وزنه في المفردات وهو الظاهر، والمراد بها على ما صح عن ابن عباس وابن مسعود رضي الله تعالى عنهم، ولمثل ذلك حكم الرفع حجارة الكبريت، وفيها من شدة الحر وكثرة الالتهاب وسرعة الإيقاد ومزيد الالتصاق بالأبدان، وإعداد أهل النار أن يكونواحطباً مع نتن ريح وكثرة دخان ووفور كثافة ما نعوذ بالله منه، وفي ذلك تهويل لشأن النار وتنفير عما يجر إليها بما هو معلوم في الشاهد، وإن كان الأمر وراء ذلك فالعالم وراء هذا العالم وعيلم قدرة الجبار سبحانه وتعالى يضمحل فيه هذا العيلم، وقيل‏:‏ المراد بها الأصنام التي ينحتونها وقرنها بهم في الآخرة زيادة لتحسرهم حيث بدا لهم نقيض ما كانوا يتوقعون، وهناك يتم لهم نوعان من العذاب روحاني وجسماني، ويؤيد هذا قوله تعالى‏:‏

‏{‏إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 8 9‏]‏ وحملها على الذهب والفضة لأنهما يسميان حجراً كما في «القاموس» دون هذين القولين، الأصح أولهما‏:‏ عند المحدثين وثانيهما‏:‏ عند الزمخشري؛ ويشير إليه كلام الشيخ الأكبر قدس سره‏.‏ وأل فيها على كل ليست للعموم، وذهب بعض أهل العلم إلى أنها له، ويكون المعنى أن النار التي وعدوا بها صالحة لأن تحرق ما ألقي فيها من هذين الجنسين؛ فعبر عن صلاحيتها واستعدادها بالأمر المحقق، وذكر الناس والحجارة تعظيماً لشأن جهنم وتنبيهاً على شدة وقودها ليقع ذلك في النفوس أعظم موقع ويحصل به من التخويف ما لا يحصل بغيره وليس المراد الحقيقة وهوخلاف الظاهر والمتبادر من الآيات، ويوشك أن يكون سوء ظن بالقدرة ولا يتوهم من الاقتصار على هذين الجنسين أن لا يكون في النار غيرهما بدليل ما ذكر في غير موضع من كون الجن والشياطين فيها أيضاً، نعم قال سيدي الشيخ الأكبر قدس سره‏:‏ أنهم لهبها وأولئك جمرها، وبدأ سبحانه بالناس لأنهم الذين يدركون الآلام أو لكونهم أكثر إيقاداً من الجماد لما فيهم من الجلود واللحوم والشحوم ولأن في ذلك مزيد التخويف، وإنما عرف النار وجعل الجملة صلة وأنها يجب أن تكون قصة معلومة لأن المنكر في سورة التحريم نزل أولاً فسمعوه بصفته فلما نزل هذا بعد جاء معهوداً فعرف وجعلت صفته صلة وكون الصفة كذلك الخطيب فيه هين لما أن المخاطب هناك المؤمنون، وظاهر أنهم سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن في كون سورة التحريم نزلت أولاً مقالاً فتأمل

‏{‏أُعِدَّتْ للكافرين‏}‏ ابتداء كلام قطع عما قبله مع أن مقتضى الظاهر أن يعطف على الصلة السابقة اعتناء بشأنه بجعله مقصوداً بالذات بالإفادة مبالغة في الوعيد، وجعله استئنافاً بيانياً بأن يقدر لمن أعدت أو لمَ كان وقودها كذا وكذا، فمع عدم مساعدة عطف بشر الآتي على البناء للمفعول عليه لأنه لا يصلح للجواب إلا أن يقال المعطوف على الاستئناف لا يجب أن يكون استئنافاً يأبى عنه الذوق، أما الأول‏:‏ فلأن السياق لا يقتضيه، وأما الثاني‏:‏ فلأن المقصد من الصلة التهويل، فالسؤال بلمَ كان شأن النار كذا مما لا معنى له، والجواب غير واف به وجعله حالاً من النار باضمار قد والخبر من أجزاء الصلة لذي الحال لا من ضمير ‏{‏وَقُودُهَا‏}‏ للجمود أو لوقوع الفصل بالخبر الأجبني حينئذ ليس بشيء إذ لا يحسن التقييد بهذه الحال إلا أن يقال إنها لازمة بمنزلة الصفة فيفيد المعنى الذي تفيده الصلة، ولذا قيل‏:‏ إنها صلة بعد صلة وتعدد الصلات كالصفات والاخبار كثير بعاطف وبدونه كما نص عليه الإمام المرزوقي وإن لم يظفر به السعد، أو معطوف بحذف الحرف كما صرح به ابن مالك وجعله صلة‏.‏

و ‏{‏وَقُودُهَا الناس‏}‏ إما معترضة للتأكيد أو حال مما لا ينبغي أن يخرج عليه التنزيل، ومعنى‏:‏ ‏{‏أُعِدَّتْ‏}‏ هيئت، وقرأ عبد الله ‏(‏اعتدت‏)‏ من العتاد بمعنى العدة، وابن أبي عبلة ‏(‏أعدها الله للكافرين‏)‏ والمراد إما جنسهم والمخاطبون داخلون فيهم دخولاً أولياً أو هم خاصة ووضع الظاهر موضع ضميرهم حينئذ لذمهم وتعليل الحكم بكفرهم وكون الإعداد للكافرين لا ينافي دخول غيرهم فيها على جهة التطفل فلا حاجة إلى القول بأن نار العصاة غير نار الكفار‏.‏ ثم ما يتبادر من الآية الكريمة أن النار مخلوقة الآن والله تعالى أعلم بمكانها في واسع ملكه، وجعل المستقبل لتحققه ماضياً ك ‏{‏نفخ في الصور‏}‏ ‏[‏الكهف‏:‏ 99‏]‏ والإعداد مثله في ‏{‏أَعَدَّ الله لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 5 3‏]‏ كما يقول المعتزلة خلاف الظاهر، والذي ذهب أهل الكشف إليه أنها مخلوقة غير أنها لم تتم وهي الآن عندهم دار حرروها هواء محترق لا جمر لها ألبتة ومن فيها من الزبانية في رحمة منعمون يسبحون الله تعالى لا يفترون وتحدث فيها الآلام بحدوث أعمال الإنس والجن الذين يدخلونها، ولذا يختلف عذاب داخليها وحدها بعد الفراغ من الحساب ودخول أهل الجنة الجنة من مقعر فك الثوابت إلى أسفل السافلين، فهذا كله يزاد إلى ما هو الآن‏.‏ ولذا كان يقول عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما‏:‏ إذا رأى البحر يا بحر متى تعود ناراً، وكان يكره الوضوء بمائه ويقول‏:‏ التيمم أحب إلي منه وقال تعالى‏:‏ ‏{‏وَإِذَا البحار سُجّرَتْ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏ 6‏]‏ أي أججت، وليس للكفار اليوم مكث فيها وإنما يعرضون عليها كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏بُكْرَةً وَعَشِيّاً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 2 6‏]‏ وهي ناران حسية مسلطة على ظاهر الجسم، والإحساس والحيوانية، ومعنوية وهي‏:‏ ‏{‏التى تَطَّلِعُ عَلَى الافئدة‏}‏ ‏[‏الهمزة‏:‏ 7‏]‏ وبها يعذب الروح المدبر للهيكل الذي أمر فعصى، والمخالفة وهي عين الجهل بمن استكبر عليه أشد العذاب، وقد أطالوا الكلام في ذلك وأتوا بالعجب العجاب، وحقيق الأمر عندي لا يعلمها إلا الله تعالى ولا شيء أحسن من التسليم لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فكيفية ما في تلك النشأة الأخروية مما لا يمكن أن تعلم كما ينبغي لمن غرق في بحار العلائق الدنيوية وماذا على إذا آمنت بما جاء مما أخبر به الصادق من الأمور السمعية مما لا يستحيل على ما جاء وفوضت الأمر إلى خالق الأرض والسماء أسأل الله تعالى أن يثبت قلوبنا على دينه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏25‏]‏

‏{‏وَبَشِّرِ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏25‏)‏‏}‏

‏{‏وَبَشّرِ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات‏}‏ لما ذكر سبحانه وتعالى فيما تقدم الكفار وما يؤول إليه حالهم في الآخرة وكان في ذلك أبلغ التخويف والإنذار عقب بالمؤمنين وما لهم جرياً على السنة الإلهية من شفع الترغيب بالترهيب والوعد بالوعيد لأن من الناس من لا يجديه التخويف ولا يجديه وينفعه اللطف، ومنهم عكس ذلك فكأن هذا وما بعده معطوف على سابقه عطف القصة على القصة، والتناسب بينهما باعتبار أنه بيان لحال الفريقين المتباينين وكشف عن الوصفين المتقابلين، وهل هو معطوف على ‏{‏وَإِن كُنتُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 3 2‏]‏ إلى ‏{‏أُعِدَّتْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 4 2‏]‏ أو على ‏{‏فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 4 2‏]‏ الآية قولان‏؟‏ اختار السيد أولهما، وادعى بعضهم أنه أقضى لحق البلاغة، وادعى لتلائم النظم لأن ‏{‏ياأيها الناس اعبدوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 1 2‏]‏ خطاب عام يشمل الفريقين ‏{‏وَإِن كُنتُمْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 23‏]‏ الخ مختص بالمخالف ومضمونه الإنذار ‏{‏وَبَشّرِ‏}‏ الخ مختص بالموافق ومضمونه البشارة كأنه تعالى أوحى إلى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يدعو الناس إلى عبادته، ثم أمر أن ينذر من عاند ويبشر من صدق، والسعد اختار ثانيهما لأن السوق لبيان حال الكفار ووصف عقابهم‏.‏ وقيل عطف على ‏{‏فاتقوا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 4 2‏]‏ وتغاير المخاطبين لا يضر ك ‏{‏يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا واستغفرى‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 9 2‏]‏ وترتبه على الشرط بحكم العطف باعتبار أن اتقوا إنذار وتخويف للكفار ‏{‏وَبَشّرِ‏}‏ تبشيراً للمؤمنين، وكل منهما مترتب على عدم المعارضة بعدم التحدي لأن عدم المعارضة يستلزم ظهور إعجازه وهو يستلزم استيجاب منكره العقاب، ومصدقه الثواب لأن الحجة تمت والدعوة كملت، واستيجابهما إياهما يقتضي الإنذار والتبشير، فترتب الجملة الثانية على الشرط ترتب الأولى عليه بلا فرق، وقد يقال إن الجزاء ‏(‏فآمنوا‏)‏ محذوفاً والمذكور قائم مقامه؛ فالمعنى إن لم تأتوا بكذا فآمنوا ‏{‏وَبَشّرِ الذين ءامَنُواْ‏}‏ أي فليوجد إيمان منهم وبشارة منك ووضع الظاهر موضع الضمير، وفيه حث لهم على الإيمان، ولعله أقل مؤنة‏.‏ واختار صاحب «الإيضاح» عطفه على أنذر مقدراً بعد جملة ‏{‏أُعِدَّتْ‏}‏ وقيل‏:‏ عطف على قل قبل ‏{‏وَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ‏}‏ وتقديره قبل ‏{‏يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 1 2‏]‏ يحوج إلى إجراء ‏{‏مّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 3 2‏]‏ على طريقة كلام العظماء، أو تقدير قال الله بعد قل، والبشارة بالكسر والضم اسم من بشر بشراً وبشوراً وتفتح الباء فتكون بمعنى الجمال، وفي الفعل لغتان، التشديد وهي العليا، والتخفيف وهي لغة أهل تهامة، وقرىء بهما في المضارع في مواضع والتكثير في المشدد بالنسبة إلى المفعول، فإن واحداً كان فعل فيه مغنياً عن فعل، وفسروها في المشهور، وصحح بالخبر السار الذي ليس عند المختبر علم به، واشترط بعضهم أن يكون صدقاً، وعن سيبويه إنها خبر يؤثر في البشرة حزناً أو سروراً وكثر استعماله في الخير، وصححه في «البحر»

‏{‏فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 1 2‏]‏ ظاهر عليه، ومن باب التهكم على الأول والمأمور بالتبشير البشير النذير صلى الله عليه وسلم، وقيل‏:‏ كل من يتأتى منه ذلك كما في قوله صلى الله عليه وسلم «بشر المشائين إلى المساجد» الحديث ففيه رمز إلى أن الأمر لعظمته حقيق بأن يتولى التبشير به كل من يقدر عليه ويكون هناك مجاز إن كان الضمير موضوعاً لجزئي بوضع كلي وإلا ففي الحقيقة والمجاز كلام في محله، ولم يخاطب المؤمنون كما خوطب الكفرة تفخيماً لشأنهم وإيذاناً تاماً فإنهم أحقاء بأن يبشروا ويهنئوا بما أعد لهم، وقيل‏:‏ تغيير للأسلوب لتخييل كمال التباين بين حال الفريقين، وعندي أنه سبحانه لما كسى رسوله صلى الله عليه وسلم حلة عبوديته في قوله‏:‏ ‏{‏مّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 3 2‏]‏ ناسب أن يطرزها بطراز التكليف بما يزيد حب أحبابه له فيزدادوا إيمانا إلى إيمانهم، وفي ذلك من اللطف به صلى الله عليه وسلم وبهم ما لا يخفى‏.‏

وقرأ زيد بن علي ‏(‏وبشر‏)‏ مبنياً للمفعول وهو معطوف على ‏{‏أُعِدَّتْ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 4 2‏]‏ كما اشتهر، وقيل‏:‏ إنه خبر معنى الأمر فتوافق القراءتان معنى وعطفاً، وتعليق التبشير بالموصول للإشعار بأنه معلل بما في حيز الصلة من الإيمان والعمل الصالح لكن لا لذاتهما بل بجعل الشارع ومقتضى وعده، وجعل صلته فعلاً مفيداً للحدوث بعد إيراد الكفار بصيغة الفاعل لحث المخاطبين بالاتقاء على إحداث الإيمان وتحذيرهم من الاستمرار على الكفر، ثم لا يخفى أن كون مناط البشارة مجموع الأمرين لا يقتضي انتفاء البشارة عند انتفائه فلا يلزم من ذلك أن لا يدخل بالإيمان المجرد الجنة كما هو رأي المعتزلة على أن مفهوم المخالفة ظني لا يعارض النصوص الدالة على أن الجنة جزاء مجرد الإيمان، ومتعلق ‏{‏ءامَنُواْ‏}‏ مما لا يخفى، وقدره بعضهم هنا بأنه منزل من عند الله عز وجل، و‏(‏ الصالحات‏)‏ جمع صالحة وهي في الأصل مؤنث الصالح اسم فاعل من صلح صلوحاً وصلاحاً خلاف فسدت، ثم غلبت على ما سوغه الشرع وحسنه، وأجريت مجرى الأسماء الجامدة في عدم جريها على الموصوف وغيره، وتأنيثها على تقدير الخلة وللغلبة ترك، ولم تجعل التاء للنقل لعدم صيرورتها اسماً وأل فيها للجنس لكن لا من حيث تحققه في الأفراد إذ ليس ذلك في وسع المكلف ولو أريد التوزيع يلزم كفاية عمل واحد بل في البعض الذي يبقى مع إرادته معناه الأصلي الجنسية مع الجمعية وهو الثلاثة أو الاثنان، والمخصص حال المؤمن فما يستطيع من الأعمال الصالحة بعد حصول شرائطه هو المراد، فالمؤمن الذي لم يعمل أصلاً أو عمل عملاً واحداً غير داخل في الآية، ومعرفة كونه مبشراً من مواقع أخر، وبعضهم جعل فيها شائبة التوزيع بأن يعمل كل ما يجب من الصالحات إن وجب قليلاً كان أو كثيراً، وأدخل من أسلم ومات قبل أن يجب عليه شيء أو وجب شيء واحد، وليس هذا توزيعاً في المشهور كركب القوم دوابهم إذ قد يطلق أيضاً على مقابلة أشياء بأشياء أخذ كل منها ما يخصه سواء الواحد الواحد كالمثال أو الجمع الواحد كدخل الرجال مساجد محلاتهم أو العكس كلبس القوم ثيابهم ومنه

‏{‏فاغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 6‏]‏ والسيد يسمي هذا شائبة التوزيع‏.‏

‏{‏أَنَّ لَهُمْ جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الانهار‏}‏ أراد سبحانه‏:‏ ‏{‏بِأَنَّ لَهُمُ‏}‏ الخ لتعدي البشارة بالباء فحذف لاطراد حذف الجار مع أنّ، وأن بغير عوض لطولهما بالصلة، ومع غيرهما فيه خلاف مشهور، وفي المحل بعد الحذف قولان، النصب بنزع الخافض كما هو المعروف في أمثاله، والجر لأن الجار بعد الحذف قد يبقى أثره ولام الجر للاستحقاق وكيفيته مستفادة من خارج ولا استحقاق بالذات فهو بمقتضى وعد الشارع الذي لا يخلفه فضلاً وكرماً لكن بشرط الموت على الإيمان، والجنة في الأصل المرة من الجن بالفتح مصدر جنه إذا ستره، ومدار التركيب على الستر ثم سمي بها البستان الذي سترت أشجاره أرضه أو كل أرض فيها شجر ونخل فإن كرم ففردوس، وأطلقت على الأشجار نفسها ووردت في شعر الأعشى بمعنى النخل خاصة ثم نقلت وصارت حقيقة شرعية في دار الثواب إذ فيها من النعيم «مالا، ولا» مما هو مغيب الآن عنا، وجمعت جمع قلة في المشهور لقلتها عدداً كقلة أنواع العبادات ولكن في كل واحدة منها مراتب شتى ودرجات متفاوتة على حسب تفاوت الأعمال والعمال، وما نقل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها سبع لم يقف على ثبوته الحفاظ، وتنوينها إما للتنويع أو للتعظيم، وتقديم الخبر لقرب مرجع الضمير وهو أسر للسامع، والشائع التقديم إذا كان الاسم نكرة ك ‏{‏إِنَّ لَنَا لاجْرًا‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 3 11‏]‏ وتحت ظرف مكان لا يتصرف فيه بغير ‏(‏من‏)‏ كما نص عليه أبو الحسن، والضمير للجنات فإن أريد الأشجار فذاك مع ما فيه قريب في الجملة وإن أريد الأرض قيل من تحت أشجارها أو عاد عليها باعتبار الأشجار استخداماً ونحوه، وقيل‏:‏ إن تحت بمعنى جانب كداري تحت دار فلان وضعف كالقول من تحت أوامر أهلها وقيل‏:‏ منازلها، وإن أريد مجموع الأرض والأشجار فاعتبار التحتية كما قيل بالنظر إلى الجزء الظاهر المصحح لإطلاق الجنة على الكل والوارد في الأثر الصحيح عن مسروق إن أنهار الجنة تجري في غير أخدود، وهذا في أرض حصباؤها الدر والياقوت أبلغ في النزهة وأحلى في المنظر وأبهج للنفس‏:‏

وتحدث الماء الزلال مع الحصى *** فجرى النسيم عليه يسمع ما جرى

والأنهار جمع نهر بفتح الهاء وسكونها والفتح أفصح، وأصله الشق، والتركيب للسعة ولو معنوية كنهر السائل بناءً على أنه الزجر البليغ فأطلق على ما دون البحر وفوق الجدول، وهل هو نفس مجرى الماء أو الماء في المجرى المتسع‏؟‏ قولان‏:‏ أشهرهما الأول، وعليه فالمراد مياهها أو ماؤها، وتأنيث ‏{‏تَجْرِى‏}‏ رعاية للمضاف إليه أو للفظ الجمع، وفي الكلام مجاز في النقص أو في الطرف ‏(‏أولا، ولا‏)‏ والإسناد مجازي، وأل للعهد الذهني قيل‏:‏ أو الخارجي لتقدم ذكر الأنهار في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِيهَا أَنْهَارٌ مّن مَّاء‏}‏ ‏[‏محمد‏:‏ 5 1‏]‏ الآية فإنها مكية على الأصح، وذي مدنية نزلت بعدها، واستبعده السيد والسعد، وقيل‏:‏ عوض عن المضاف إليه أي أنهارها وهو مذهب كوفي، وحملها على الاستغراق على معنى يجري تحت الأشجار جميع أنهار الجنة فهو وصف لدار الثواب بأن أشجارها على شواطىء الأنهار وأنهارها تحت ظلال الأشجار أبرد من الثلج، ولا يخفى الكلام على جمع القلة‏.‏

‏{‏كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هذا الذى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ‏}‏ صفة ثانية لجنات أخرت عن الأولى لأن جريان الأنهار من تحتها وصف لها باعتبار ذاتها، وهذا باعتبار سكانها أو خبر مبتدأ محذوف أي هم والقرينة ذكره في السابقة واللاحقة، وكون الكلام مسوقاً لبيان أحوال المؤمنين، وفائدة حذف هذا المبتدأ تحقق التناسب بين الجمل الثلاثة صورة لأسميتها، ومعنى لكونها جواب سؤال كأنه قيل‏:‏ ما حالهم في تلك الجنات‏؟‏ فأجيب بأن لهم فيها ثماراً لذيذة عجيبة وأزواجاً نظيفة ‏{‏وَهُمْ فِيهَا خالدون‏}‏ وتقدير المبتدأ هو أو هي للشأن أو القصة ليس بشيء بناءً على أنه لا يجوز حذف هذا الضمير، وإذا لم تدخله النواسخ لا بد أن يكون مفسره جملة اسمية، نعم جاز تقدير هي للجنات والجملة خبر إلا أن التناسب أنسب أو جملة مستأنفة كأنه لما وصف الجنات بما ذكر وقع في الذهن أن ثمارها كثمار جنات الدنيا أولاً فبين حالها ‏{‏وَلَهُمْ فِيهَا أزواج‏}‏ زيادة في الجواب ولو قدر السؤال نحو ألهم في الجنات لذات كما في هذه الدار أم أتم وأزيد‏؟‏ كان أصح وأوضح، وأجاز أبو البقاء كونها حالاً من ‏{‏الذين‏}‏ أو من ‏{‏جنات‏}‏ لوصفها وهي حينئذٍ حال مقدرة والأصل في الحال المصاحبة، والقول بأنها صفة مقطوعة دعوى موصولة بالجهل بشرط القطع وهو علم السامع باتصاف المنعوت بذلك النعت وإلا لاحتاج إليه ولا قطع مع الحاجة، و‏{‏كُلَّمَا‏}‏ نصب على الظرفية بـ ‏{‏قَالُواْ‏}‏، و‏{‏رِزْقاً‏}‏ مفعول ثان لرزقوا كرزقه مالاً أي أعطاه، وليس مفعولاً مطلقاً مؤكداً لعامله لأنه بمعنى المرزوق أعرف، والتأسيس خير من التأكيد مع اقتضاء ظاهر ما بعده له، وتنكيره للتنويع أو للتعظيم أي نوعاً لذيذاً غير ما تعرفونه، و‏(‏ من‏)‏ الأولى والثانية للابتداء قصد بهما مجرد كون المجرور بهما موضعاً انفصل عنه الشيء، ولذا لا يحسن في مقابلتها نحو إلى وهما ظرفان مستقران واقعان حالاً على التداخل، وصاحب الأولى‏:‏ ‏{‏رِزْقاً‏}‏ والثانية‏:‏ ضميره المستكن في الحال، والمعنى كل حين رزقوا مرزوقاً مبتدأ من الجنات مبتدأ من ثمرة، والشائع كونهما لغواً، والرزق قد ابتدأ من الجنات، والرزق من الجنات قد ابتدأ من ثمرة وجعل بمنزلة أن تقول‏:‏ أعطاني فلان، فيقتل‏:‏ من أين‏؟‏ فتقول‏:‏ من بستانه، فيقول‏:‏ من أي ثمرة‏؟‏ فتقول‏:‏ من الرمان، وتحريره أن ‏{‏رُزِقُواْ‏}‏ جعل مطلقاً مبتدأ من الجنات ثم جعل مقيداً بالابتداء من ذلك مبتدأ من ثمرة، وعلى القولين لا يرد أنهم منعوا تعلق حرفي جر متحدي اللفظ والمعنى بعامل واحد والآية تخالفه، أما على الأول فظاهر، وأما على الثاني فلأن ذاك إذا تعلقا به من جهة واحدة ابتداءً من غير تبعية‏.‏

وما نحن فيه ليس كذلك للإطلاق والتقييد والمراد من الثمرة على هذا النوع كالتفاح والرمان لا الفرد لأن ابتداء الرزق من البستان من فرد يقتضي أن يكون المرزوق قطعة من لا جميعه وهو ركيك جداً، ويحتمل أن تكون الثانية مبينة للمرزوق والظرف الأول لغو والثاني مستقر خلافاً لمن وهم فيه وقع حالاً من النكرة لتقدمه عليها ولتقدمها تقديراً جاز تقديم المبين على المبهم، والثمرة يجوز حملها على النوع وعلى الجنأة الواحدة ولم يلتفت المحققون إلى جعل الثانية تبعيضية في موقع المفعول، و‏{‏رِزْقاً‏}‏ مصدر مؤكد أو في موقع الحال من ‏{‏رِزْقاً‏}‏ لبعده مع أن الأصل التبيين والابتداء فلا يعدل عنهما إلا لداع على أن مدلول التبعيضية أن يكون ما قبلها أو ما بعدها جزأ لمجرورها لا جزئياً فتأتي الركاكة ههنا، وجمع سبحانه بين ‏{‏مِنْهَا‏}‏ و‏{‏مِن ثَمَرَةٍ‏}‏ ولم يقل من ثمرها بدل ذلك لأن تعلق ‏{‏مِنْهَا‏}‏ يفيد أن سكانها لا تحتاج لغيرها لأن فيها كل ما تشتهي الأنفس، وتعلق ‏{‏مِن ثَمَرَةٍ‏}‏ يفيد أن المراد بيان المأكول على وجه يشمل جميع الثمرات دون بقية اللذات المعلومة من السابق واللاحق، وهذا إشارة إلى نوع ما رزقوا ويكفي إحساس أفراده وهذا كقولك مشيراً إلى نهر جار هذا الماء لا ينقطع أو إلى شخصه، والإخبار عنه ب ‏(‏الذي‏)‏ الخ على جعله عينه مبالغة أو تقدير مثل الذي رزقناه من قبل أي في الدنيا، والحكمة في التشابه أن النفس تميل إلى ما يستطاب وتطلب زيادته‏.‏

أعد ذكر نعمان لنا إن ذكره *** هو المسك ما كررته يتضوع

وهذا مختلف بحسب الأحوال والمقامات، أو لتبيين المزية وكنه النعمة فيما رزقوه هناك إذ لو كان جنساً لم يعهد ظن أنه لا يكون إلا كذلك أو في الجنة، والتشابه في الصورة إما مع الاختلاف في الطعم كما روي عن الحسن‏:‏ «إن أحدهم يؤتي بالصحفة فيأكل منها ثم يؤتى بأخرى فيراها مثل الأولى فيقول ذلك‏؟‏ فيقول الملك‏:‏ كل فاللون واحد والطعم مختلف» أو مع التشابه في الطعم أيضاً كما يشير إليه قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ والذي نفس محمد بيده إن الرجل من أهل الجنة ليتناول الثمرة ليأكلها فما هي واصلة إلى فيه حتى يبدل الله تعالى مكانها مثلها ‏"‏ فلعلهم إذا رأوها على الهيئة الأولى قالوا ذلك، والداعي لهم لهذا القول فرط استغرابهم وتبجحهم بما وجدوا من التفاوت العظيم‏.‏

 والمشهور أن كون المراد بالقبلية في الدنيا أولى مما يقدم في الآخرة لأن ‏(‏ كلما‏)‏ تفيد العموم ولا يتصور قولهم ذلك في أول ما قدم إليهم، وقيل‏:‏ كون المراد بها في الآخرة أولى لئلا يلزم انحصار ثمار الجنة في الأنواع الموجودة في الدنيا مع أن فيها ما علمت وما لم تعلم، على أن فيه توفية بمعنى حديث تشابه ثمار الجنة وموافقته لمتشابها بعد فإنه في رزق الجنة أظهر، وإعادة الضمير إلى المرزوق في الدارين تكلف وستسمعه بمنه تعالى، وفي الآية محمل آخر يميل إليه القلب بأن يكون ما رزقوه قبل هو الطاعات والمعارف التي يستلذها أصحاب الفطرة والعقول السليمة، وهذا جزاء مشابه لها فيما ذكر من اللذة كالجزاء الذي في ضده في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ ‏[‏العنكبوت‏:‏ 55‏]‏ أي جزاءه فالذي رزقناه مجاز مرسل عن جزائه بإطلاق اسم المسبب على السبب ولا يضر في ذلك أن الجنة وما فيها من فنون الكرامات من الجزاء كما لا يخفى أو هو استعارة بتشبيه الثمار والفواكه بالطاعات والمعارف فيما ذكر، وقيل‏:‏ أرض الجنة قيعان يظهر فيها أعمال الدنيا كما يشير إليه بعض الآثار فثمرة النعيم ما غرسوه في الدنيا فتدبر ‏{‏وَأُتُواْ بِهِ متشابها‏}‏ تذييل للكلام السابق وتأكيد له بما يشتمل على معناه لا محل له من الإعراب، ويحتمل الاستئناف والحالية بتقدير ‏(‏قد‏)‏ وهو شائع، وحذف الفاعل للعلم به وهو ظاهراً الخدم والولدان كما يشير إليه قراءة هارون والعتكي ‏(‏وأتوا‏)‏ على الفاعل وفيها إضمار لدلالة المعنى عليه، وقد أظهر ذلك في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَطُوفُ عَلَيْهِمْ ولدان مُّخَلَّدُونَ‏}‏ إلى قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏وفاكهة مّمَّا يَتَخَيَّرُونَ‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 7 1 0 2‏]‏ والضمير المجرور إما على تقدير أن يراد من قبل في الدنيا فراجع إلى المفهوم الواحد الذي تضمنه اللفظان‏:‏ ‏{‏هذا‏}‏ و‏{‏الذى رُزِقْنَا مِن قَبْلُ‏}‏ وهو المرزوق في الدارين أي أوتوا بمرزق الدارين متشابهاً بعضه بالبعض ويسمى هذا الطريق بالكناية الإيمائية ولو رجع إلى الملفوظ لقيل بهما، وعبر عما بعضه ماض وبعضه مستقبل بالماضي لتحقق وقوعه، وفي «الكشف» أن المراد من المرزوق في الدنيا والآخرة الجنس الصالح التناول لكل منهما لا المقيد بهما، وإما على تقدير أن يراد في الجنة فراجع إلى الرزق أي أوتوا بالمرزوق في الجنة متشابه الأفراد‏.‏

قال أبو حيان‏:‏ والظاهر هذا لأن مرزوقهم في الآخرة هو المحدث عنه والمشبه بالذي رزقوه من قبل ولأن هذه الجملة إنما جاءت محدثاً بها عن الجنة وأحوالها وكونه يخبر عن المرزوق في الدنيا والآخرة أنه متشابه ليس من حديث الجنة إلا بتكلف، ولا يعكر على دعوى متشابه ما في الدارين ما أخرجه البيهقي وغيره عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال‏:‏ «ليس في الجنة من أطعمة الدنيا إلا الأسماء» لأنه لا يشترط فيه أن يكون من جميع الوجوه وهو حاصل في الصورة التي هي مناط الاسم وإن لم يكن في المقدار والطعم، وتحريره أن إطلاق الأسماء عليها لكونها على الاستعارة يقتضي الاشتراك فيما هو مناطها وهو الصورة، وبذلك يتحقق التشابه بينهما فالمستثنى في الأثر الأسماء وما هو مناطها بدلالة العقل ‏{‏وَلَهُمْ فِيهَا أزواج مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خالدون‏}‏ صفة ثالثة ورابعة للجنات وأوردت الأوليتان بالجملة الفعلية لإفادة التجدد، وهاتان بالإسمية لإفادة الدوام، وترك العاطف في البعض مع إيراده في البعض قيل‏:‏ للتنبيه على جواز الأمرين في الصفات، واختص كل بما اختص به لمناسبة لا تخفى، وذهب أبو البقاء إلى أن هاتين الجملتين مستأنفتان، وجوز أن تكون الثانية حالاً من ضمير الجمع في‏:‏ ‏(‏ لهم‏)‏ والعامل فيها معنى الاستقرار والأزواج جمع قلة وجمع الكثرة زوجة كعود وعودة ولم يكثر استعماله في الكلام، قيل‏:‏ ولهذا استغنى عنه بجمع القلة توسعاً، وقد ورد في الآثار ما يدل على كثرة الأزواج في الجنة من الحور وغيرهن، ويقال‏:‏ الزوج للذكر والأنثى، ويكون لأحد المزدوجين ولهما معاً، ويقال‏:‏ للأنثى زوجة في لغة تميم وكثير من قيس، والمراد هنا بالأزواج النساء اللاتي تختص بالرجل لا يشركه فيها غيره، وليس في المفهوم اعتبار التوالد الذي هو مدار بقاء النوع حتى لا يصح إطلاقه على أزواج الجنة لخلودهم فيها واستغنائهم عن الأولاد، على أن بعضهم صحح التوالد فيها وروى آثاراً في ذلك لكن على وجه يليق بذلك المقام، وذكر بعضهم أن الأولاد روحانيون والله قادر على ما يشاء‏.‏ ومعنى كونها مطهرة أن الله سبحانه نزههن عن كل ما يشينهن، فإن كن من الحور كما روي عن عبد الله فمعنى التطهر خلقهن على الطهارة لم يعلق بهن دنس ذاتي ولا خارجي، وإن كن من بني آدم كما روي عن الحسن‏:‏ «من عجائزكم الرمص الغمص يصرن شواب» فالمراد إذهاب كل شين عنهن من العيوب الذاتية وغيرها‏.‏

والتطهير كما قال الراغب يقال في الأجسام والأخلاق والأفعال جميعاً، فيكون عاماً هنا بقرينة مقام المدح لا مطلقاً منصرفاً إلى الكامل، وكمال التطهير إنما يحصل بالقسمين كما قيل، فإن المعهود من إرادة الكامل إرادة أعلى أفراده لا الجميع، وقرأ زيد بن علي ‏(‏مطهرات‏)‏ بناءً على طهرن لا طهرت كما في الأولى ولعلها أولى استعمالاً، وإن كان الكل فصيحاً لأنهم قالوا‏:‏ جمع ما لا يعقل إما أن يكون جمع قلة أو كثرة، فإن كان جمع كثرة فمجىء الضمير على حد ضمير الواحدة أولى من مجيئه على حد ضمير الغائبات، وإن كان جمع قلة فالعكس، وكذلك إذا كان ضميراً عائداً على جمع العاقلات الأولى فيه النون دون التاء ك ‏{‏بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 234‏]‏ و‏{‏يُرْضِعْنَ أولادهن‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 233‏]‏ ولم يفرقوا في هذا بين جمع القلة والكثرة، ومجىء هذه الصفة مبينة للمفعول، ولم تأت طاهرة وصف من طهر بالفتح على الأفصح، أو طهر بالضم، وعلى الأول قياس، وعلى الثاني شاذ للتفخيم لأنه أفهم أن لها مطهراً وليس سوى الله تعالى، وكيف يصف الواصفون من طهره الرب سبحانه‏؟‏ا وقرأ عبيد بن عمير‏:‏ ‏{‏مُّطَهَّرَةٍ‏}‏ وأصله متطهرة فأدغم، ولما ذكر سبحانه وتعالى مسكن المؤمنين ومطعمهم ومنكحهم؛ وكانت هذه الملاذ لا تبلغ درجة الكمال مع خوف الزوال ولذلك قيل‏:‏

أشد الغم عندي في سرور *** تيقن عنه صاحبه انتقالاً

أعقب ذلك بما يزيل ما ينغص إنعامه من ذكر الخلود في دار الكرامة، والخلود عند المعتزلة البقاء الدائم الذي لا ينقطع، وعندنا البقاء الطويل انقطع أو لم ينقطع، واستعماله في المكث الدائم من حيث إنه مكث طويل لا من حيث خصوصه حقيقة وهو المراد هنا، وقد شهدت له الآيات والسنن، والجهمية يزعمون أن الجنة وأهلها يفنيان وكذا النار وأصحابها، والذي دعاهم إلى هذا أنه تعالى وصف نفسه بأنه الأول والآخر، والأولية تقدمه على جميع المخلوقات، والآخرية تأخره ولا يكون إلا بفناء السوي، ولو بقيت الجنة وأهلها كان فيه تشبيه لمن لا شبيه له سبحانه وهو محال، ولأنه إن لم يعلم أنفاس أهل الجنة كان جاهلاً تعالى عن ذلك، وإن علم لزم الانتهاء وهو بعد الفناء، ولنا النصوص الدالة على التأبيد والعقل معها لأنها دار سلام وقدس لا خوف ولا حزن‏.‏ والمرء لا يهنأ بعيش يخاف زواله بل قيل‏:‏ البؤس خير من نعيم زائل، والكفر جريمة خالصة فجزاؤها عقوبة خالصة لا يشوبها نقص، ومعنى‏:‏ ‏(‏الأول والآخر‏)‏ ليس كما في الشاهد بل بمعنى لا ابتداء ولا انتهاء له في ذاته من غير استناد لغيره فهو الواجب القدم المستحيل العدم، والخلق ليسوا كذلك، فأين الشبه والعلم لا يتناهى فيتعلق بما لا يتناهى، وما أنفاس أهل الجنة إلا كمراتب الأعداد‏؟‏ا أفيقال‏:‏ إن الله سبحانه لا يعلمها أو يقال إنها متناهية، تباً للجهمية ما أجهلهم، وأجهل منهم من قال إن الأبدان مؤلفة من الأجزاء المتضادة في الكيفية معرضة للاستحالات المؤدية إلى الانحلال والانفكاك فكيف يمكن التأبيد، وذلك لأن مدار هذا على قياس هاتيك النشأة على هذه النشأة، وهيهات هيهات كيف يقاس ذلك العالم الكامل على عالم الكون والفساد‏؟‏ا على أنه إذا ثبت كونه تعالى قادراً مختاراً ولا فاعل في الوجود إلا هو فلمَ لا يجوز أن يعيد الأبدان بحيث لا تتحلل، أو إن تحللت فلمَ لا يجوز أن يخلق بدل ما تحلل دائماً أبداً‏؟‏ وسبحان القادر الحكيم الذي لا يعجزه شيء‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْىِ أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً‏}‏ قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وغيره‏:‏ نزلت في اليهود لما ضرب الله تعالى الأمثال في كتابه بالعنكبوت والذباب وغير ذلك مما يستحقر قالوا‏:‏ إن الله تعالى أعز وأعظم من أن يضرب الأمثال بمثل هذه المحقرات فرد الله تعالى عليهم بهذه الآية‏.‏ ووجه ربطها بما تقدم على هذا وكان المناسب عليه أن توضع في سورة العنكبوت مثلاً أنها جواب عن شبهة تورد على إقامة الحجة على حقية القرآن بأنه معجز فهي من الريب الذي هو في غاية الاضمحلال فكان ذكرها هنا أنسب، وقال مجاهد وغيره‏:‏ نزلت في المنافقين قالوا لما ضرب الله سبحانه المثل بالمستوقد والصيب الله تعالى أعلى وأعظم من أن يضرب الأمثال بمثل هذه الأشياء التي لا بال لها فرد الله تعالى عليهم ووجه الربط عليه ظاهر فإنها للذب عن التمثيلات السابقة على أحسن وجه وأبلغه، وقيل‏:‏ إنها متصلة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 22‏]‏ أي‏:‏ لا يستحي أن يضرب مثلاً لهذه الأنداد، وقيل‏:‏ هذا مثل ضرب للدنيا وأهلها فإن البعوضة تحيا ما جاعت وإذا شبعت ماتت، كذلك أهل الدنيا إذا امتلؤا منها هلكوا، أو مثل لأعمال العباد وأنه لا يمتنع أن يذكر منها ما قل أو كثر ليجازى عليه ثواباً وعقاباً، وعلى هذين القولين لا ارتباط للآية بما قبلها بل هي ابتداء كلام، وهذا وإن جاز لا أقول به إذ المناسب بكل آية أن ترتبط بما قبلها وفي الآية إشارة إلى حسن التمثيل كيف والله سبحانه مع عظمته وبالغ حكمته لم يتركه ولم يستح منه‏:‏

وما انفكت الأمثال في الناس سائرة *** والحياء كما قال الراغب انقباض النفس عن القبائح، وهو مركب من جبن وعفة، وليس هو الخجل بل ذاك حيرة النفس لفرط الحياء فهما متغايران وإن تلازما، وقال بعضهم‏:‏ الخجل لا يكون إلا بعد صدور أمر زائد لا يريده القائم به بخلاف الحياء فإنه قد يكون مما لم يقع فيترك لأجله، وما في «القاموس» خجل استحي تسامح، وهو مشتق من الحياة لأنه يؤثر في القوة المختصة بالحيوان وهي قوة الحس والحركة، والآية تشعر بصحة نسبة الحياء إليه تعالى لأنه في العرف لا يسلب الحياء إلا عمن هو شأنه، على أن النفي داخل على كلام فيه قيد فيرجع إلى القيد فيفيد ثبوت أصل الفعل أو إمكانه لا أقل، وأما في الأحاديث فقد صرح بالنسبة وللناس في ذلك مذهبان فبعض يقول بالتأويل إذ الانقباض النفساني مما لا يحوم حول حظائر قدسه سبحانه، فالمراد بالحياء عنده الترك اللازم للانقباض، وجوّز جعل ما هنا بخصوصه من باب المقابلة لما وقع في كلام الكفرة بناءً على ما روي أنهم قالوا‏:‏ ما يستحي رب محمد أن يضرب الأمثال بالذباب والعنكبوت، وبعض وأنا والحمد لله منهم لا يقول بالتأويل بل يمر هذا وأمثاله مما جاء عنه سبحانه في الآيات والأحاديث على ما جاءت ويكل علمها بعد التنزيه عما في الشاهد إلى عالم الغيب والشهادة، وقرأ الجمهور ‏(‏ يستحيي‏)‏ بياءين والماضي استحيا، وجاء استفعل هنا للإغناء عن الثلاثي المجرد كاستأثر، وقرأ ابن كثير في رواية وقليلون بياء واحدة وهي لغة بني تميم، وهل المحذوف اللام فالوزن يستفع، أو العين فالوزن يستفل‏؟‏ قولان‏:‏ أشهرهما الثاني، وهذا الفعل مما يكون متعدياً بنفسه وبالحرف فيقال‏:‏ استحييته واستحيت منه، والآية تحتملهما‏.‏

والضرب إيقاع شيء على شيء، وضرب المثل من ضرب الدراهم وهو ذكر شيء يظهر أثره في غيره، فمعنى يضرب هنا يذكر، وقيل‏:‏ يبين، وقيل‏:‏ يضع من ‏{‏ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 1 6‏]‏ و‏(‏ ما‏)‏ اسم بمعنى شيء يوصف به النكرة لمزيد الإبهام ويسد طرق التقييد، وقد يفيد التحقير أيضاً كأعطه شيئاً ما والتعظيم كلأمر ما جدع قصير أنفسه والتنويع كاضربه ضرباً ما وقد تجعل سيف خطيب، والقرآن أجل من أن يلغى فيه شيء، وبعوضة إما صفة لما أو بدل منها أو عطف بيان إن قيل بجوازه في النكرات أو بدل من ‏{‏مَثَلاً‏}‏ أو عطف بيان له إن قيل ما زائدة، أو مفعول و‏{‏مَثَلاً‏}‏ حال وهي المقصودة، أو منصوب على نزع الخافض أي‏:‏ ما من بعوضة فما فوقها كما نقل عن الفراء‏.‏ والفاء بمعنى إلى، أو مفعول ثان؛ أو أول بناء على تضمن الضرب معنى الجعل، ولا يرد على إرادة العموم أن مثال المعنى على المشهور أن الله لا يترك أي مثل كان فيقتضي أن جميع الأمثال مضروبة في كلامه فأين هي لأن المنفي ليس مطلق الترك بل الترك لأجل الاستحياء‏؟‏ فالمعنى لا يترك مثلاً ما استحياء وإن تركه لأمر آخر أراده، وقرأ ابن أبي عبلة وجماعة‏:‏ ‏(‏بعوضة‏)‏ بالرفع والشائع على أنه خبر، واختلفوا فيما يكون عنه خبراً؛ فقيل‏:‏ مبتدأ محذوف أي هي أو هو بعوضة، والجملة صلة ‏(‏ما‏)‏ على جعلها موصولة، وهو تخريج كوفي لحذف صدر الصلة من غير طول، وقيل‏:‏ ‏(‏ما‏)‏ بناءً على أنها استفهامية مبتدأ، واختار في «البحر» أن تكون ‏(‏ما‏)‏ صلة أو صفة وهي ‏(‏بعوضة‏)‏ جملة كالتفسير لما انطوى عليه الكلام، وقيل‏:‏ ‏{‏بَعُوضَةً‏}‏ مبتدأ، و‏{‏مَا‏}‏ نافية والخبر محذوف أي متروكة لدلالة ‏{‏لاَ يَسْتَحْىِ‏}‏ عليه‏.‏

والبعوضة واحد البعوض، وهو طائر معروف، وفيه من دقيق الصنع وعجيب الإبداع ما يعجز الإنسان أن يحيط بوصفه ولا ينكر ذلك إلا نمرود‏.‏

وهو في الأصل صفة على فعول كالقطوع، ولذا سمي في لغة هذيل خموش فغلبت، واشتقاقه من البعض بمعنى القطع ‏{‏فَمَا فَوْقَهَا‏}‏ الفاء عاطفة ترتيبية، و‏{‏مَا‏}‏ عطف على ‏{‏بَعُوضَةً‏}‏ أو ‏{‏مَا‏}‏ إن جعل اسماً والتفصيل وما فيه غير خفي‏.‏ والمراد بالفوقية إما الزيادة في حجم الممثل به فهو ترق من الصغير للكبير وبه قال ابن عباس أو الزيادة في المعنى الذي وقع التمثيل فيه وهو الصغر والحقارة فهو تنزل من الحقير للأحقر، وهذان الوجهان على القراءة المشهورة وأما على قراءة الرفع فقد قالوا‏:‏ إن جعلت ‏{‏مَا‏}‏ موصولة ففيه الوجهان، وإن جعلت استفهامية تعين الأول لأن العظم مبتدأ من البعوضة إذ ذاك، وقيل‏:‏ أراد‏:‏ ما فوقها وما دونها فاكتفى بأحد الشيئين عن الآخر على حد ‏{‏سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 1 8‏]‏ فافهم‏.‏

‏{‏فَأَمَّا الذين ءامَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبّهِمْ‏}‏ تفصيل لما أشار إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ الله لاَ‏}‏ الخ من أنه وقع فيه ارتياب بين التحقيق والارتياب، أو لما يترتب على ضرب المثل من الحكم إثر تحقيق حقية صدوره عنه سبحانه، والفاء للدلالة على ترتب ما بعدها على ما يشير إليه ما قبلها، وكأنه قيل كما قيل فيضربه ‏{‏مُّبِيناً فَأَمَّا الذين‏}‏ الخ، وتقديم بيان حال المؤمنين لشرفه، وأما على ما عليه المحققون حرف متضمنة لمعنى الشرط ولذا لزمتها الفاء غالباً، وتفيد مع هذا تأكيد ما دخلت عليه من الحكم؛ وتكون لتفصيل مجمل تقدمها صريحاً، أو دلالة، أو لم يتقدم لكنه حاضر في الذهن ولو تقديراً، ولما كان هذا خلاف الظاهر في كثير من موارد استعمالها جعله الرضى والمرتضى من المحققين أغلبياً، وفسر سيبويه أما زيد فذاهب بمهما يكن من شيء فزيد ذاهب وليس المراد به أنها مرادفة لذلك الاسم، والفعل إذ لا نظير له، بل المراد أنها لما أفادت التأكيد وتحتم الوقوع في المستقبل كان مآل المعنى ذلك، ولما أشعرت بالشرطية قدر شرط يدل على تحتم الوقوع وهو وجود شيء ما في الدنيا إذ لا تخلو عنه فما علق عليه محقق، وحيث كان المعنى ما ذكر سيبويه‏.‏ ومهما مبتدأ والاسمية لازمة له، ويكن فعل شرط والفاء لازمة تليه غالباً، وقامت أما ذلك المقام لزمها الفاء ولصوق الاسم إقامة لللازم مقام الملزوم وإبقاء لأثره في الجملة وكان الأصل دخول الفاء على الجملة فيما ذكر لأنها الجزاء لكن كرهوا إيلاءها حرف الشرط فأدخلوا الخبر وعوضوا المبتدأ عن الشرط لفظاً، وقد يقدم على الفاء كما في الرضى من أجزاء الجزاء المفعول به والظرف والحال إلى غير ذلك مما عدوه على ما فيه، وفي تصدير الجملتين بها من الإحماد والذمّ ما لا يخفى‏.‏

والمراد بالموصول فريق المؤمنين المعهودين كما أن المراد بالموصول الآتي فريق الكفرة الطاغين لا من يؤمن بضرب المثل ومن يكفر به لاختلال المعنى، والضمير في ‏{‏أَنَّهُ‏}‏ للمثل وهو أقرب،  أو لضربه المفهوم من أن يضرب، وقيل‏:‏ لترك الاستحياء المنقدح مما مر، وقيل‏:‏ للقرآن، والحق خلاف الباطل، وهو في الأصل مصدر حق يحق من بابي ضرب وقتل إذا وجب أو ثبت، وقال الراغب‏:‏ أصله المطابقة والموافقة، ويكون بمعنى الموجد بحسب الحكمة والموجد على وفقها والاعتقاد المطابق للواقع، وقيل‏:‏ إنه الحكم المطابق، ويطلق على الأقوال والعقائد والأديان والمذاهب باعتبار اشتماله على ذلك، ولم يفرق في المشهور بينه وبين الصدق إلا أنه شاع في العقد المطابق، والصدق في القول كذلك، وقد يفرق بينها بأن المطابقة تعتبر في الحق من جانب الواقع وفي الصدق من جانب الحكم، وتعريفه هنا إما للقصر الادعائي كما يقال هذا هو الحق أو لدعوى الاتحاد ويكون المحكوم عليه مسلم الاتصاف، و‏{‏مّن رَّبّهِمُ‏}‏ إما خبر بعد خبر أو حال من ضمير الحق، و‏{‏مِنْ‏}‏ لابتداء الغاية المجازية، والتعرض لعنوان الربوبية للإشارة إلى أنهم يعترفون بحقية القرآن وبما أنعم الله تعالى به عليهم من النعم التي من أجلها نزول هذا الكتاب وهو المناسب لقوله سبحانه‏:‏ ‏{‏نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 3 2‏]‏ وأما الكفرة المنكرون لجلاله المتخذون غيره من الأرباب فالله عز اسمه هو المناسب لحالهم ‏{‏وَيُحَذّرُكُمُ الله نَفْسَهُ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 8 2‏]‏ وقيل‏:‏ في ذلك مع الإضافة إلى الضمير تشريف وإيذان بأن ضرب المثل تربية لهم وإرشاد إلى ما يوصلهم إلى كمالهم اللائق بهم، والجملة سادّة مسدّ مفعولي يعلمون عند الجمهور، ومسد الأول والثاني محذوف عند الأخفش أي ‏{‏فَيَعْلَمُونَ‏}‏ حقيته ثابتة‏.‏

‏{‏وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً‏}‏ لم يقل سبحانه وأما الذين كفروا فلا يعلمون ليقابل سابقه لما في هذا من المبالغة في ذمهم والتنبيه بأحسن وجه على كمال جهلهم لأن الاستفهام إما لعدم العلم أو للإنكار وكل منهما يدل على الجهل دلالة واضحة‏.‏

ومن قال للمسك أين الشذا *** يكذبه ريحه الطيب

قيل‏:‏ ولم يقل سبحانه هناك وأما الذين آمنوا فيقولون الخ إشارة إلى أن المؤمنين اكتفوا بالخضوع والطاعة من غير حاجة إلى التكلم والكافرون لخبثهم وعنادهم لا يطيقون الأسرار لأنه كإخفاء الجمر في الحلفاء، وقيل‏:‏ إن يقولون لا يدل صريحاً على العلم وهو المقصود والكافرون منهم الجاهل والمعاند ‏{‏فَيَقُولُونَ‏}‏ الخ أشمل وأجمع، و‏{‏مَاذَا‏}‏ لها ستة أوجه في استعمالهم‏.‏ الأول‏:‏ أن تكون ‏(‏ما‏)‏ استفهامية في موضع رفع بالابتداء، و‏(‏ ذا‏)‏ بمعنى الذي خبره، وأخبر عن المعرفة بالنكرة هنا بناءً على مذهب سيبويه في جوازه في أسماء الاستفهام‏.‏

وغيره يجعل النكرة خبراً عن الموصول‏.‏ الثاني‏:‏ أن تكون ‏(‏ماذا‏)‏ كلها استفهاماً مفعولاً لأراد وهذان الوجهان فصيحان اعتبرهما سائر المفسرين والمعربين في الآية، والاستفهام يحتمل الاستغراب والاستبعاد والاستهزاء ‏{‏ظلمات بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 04‏]‏، الثالث‏:‏ أن يجعل ‏(‏ما‏)‏ استفهامية، و‏(‏ ذا‏)‏ صلة لا إشارة ولا موصولة، الرابع‏:‏ أن يجعلا معاً موصولاً كقوله‏:‏ دعى ‏(‏ماذا‏)‏ علمت سأتقيه‏.‏ الخامس‏:‏ أن يجعلا نكرة موصوفة، وقد جوز في المثال، السادس‏:‏ أن تكون ‏(‏ما‏)‏ استفهامية، و‏(‏ ذا‏)‏ اسم إشارة خبر له‏.‏

والإرادة كما قاله الراغب‏:‏ منقولة من راد يرود إذا سعى في طلب شيء وهي في الأصل قوة مركبة من شهوة وخاطر وأمل، وجعل اسماً لنزوغ النفس إلى الشيء مع الحكم فيه بأنه ينبغي أن يفعل أو لا يفعل، ثم يستعمل مرة في المبدأ وهو نزوغ النفس إلى الشيء وتارة في المنتهى وهو الحكم فيه بأنه ينبغي الخ، وإرادة المعنى من اللفظ مجرد القصد وهو استعمال آخر ولسنا بصدده، وبين الإرادة والشهوة عموم من وجه لأنها قد تتعلق بنفسها بخلاف الشهوة فإنها إنما تتعلق باللذات، والإنسان قد يريد الدواء البشع ولا يشتهيه ويشتهي اللذيذ ولا يريده إذا علم فيه هلاكه وقد يشتهي ويريد‏.‏ وللمتكلمين أهل الحق وغيرهم في تفسيرها مذاهب، فالكلبي والنجار وغيرهما على أن إرادته سبحانه لأفعاله أنه يفعلها عالماً بها وبما فيها من المصلحة، ولأفعال غيره أنه أمر بها وطلبها، فالمعاصي إذاً ليست بإرادته جل شأنه، ونحو ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن وارد عليهم؛ والجاحظ وبعض المعتزلة والحكماء على أن إرادته تعالى شأنه علمه بجميع الموجودات من الأزل إلى الأبد وبأنه كيف ينبغي أن يكون نظام الوجود حتى يكون على الوجه الأكمل، ويكفيه صدوره عنه حتى يكون الموجود على وفق المعلوم على أحسن النظام من غير قصد وطلب شوقي، ويسمون هذا العلم عناية؛ وذهب الكرامية وأبو علي وأبو هاشم إلى أنها صفة زائدة على العلم إلا أنها حادثة قائمة بذاته عز شأنه عند الكرامية، وموجودة لا في محل عند الأبوين، والمذهب الحق أنها ذاتية قديمة وجودية زائدة على العلم ومغايرة له وللقدرة، مخصصة لأحد طرفي المقدور بالوقوع، وكونها نفس الترجيح الذي هو من صفات الأفعال كما قال البيضاوي عفا الله تعالى عنه لم يذهب إليه أحد‏.‏ وفي كلمة ‏(‏هذا‏)‏ استحقار للمشار إليه مثلها في‏:‏ ‏{‏أهذا الذى بَعَثَ الله رَسُولاً‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 1 4‏]‏ وقد تكون للتعظيم بحسب اقتضاء المقام، و‏{‏مَثَلاً‏}‏ نصب على التمييز عن نسبة الاستغراب ونحوه إلى المشار إليه‏.‏ وقد ذكر الرضى والعهدة عليه أن الضمير واسم الإشارة إذا كانا مبهمين يجىء التمييز عنهما والعامل هما لتماميهما بنفسهما حيث يمتنع إضافتهما، وإذا كانا معلومين فالتمييز عن النسبة، ويحتمل أن يكون حالاً من اسم الله تعالى أو من ‏(‏هذا‏)‏ أي ممثلاً أو ممثلاً به أو بضربه‏.‏

‏{‏يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا‏}‏ جملتان جاريتان مجرى البيان، والتفسير للجملتين المصدرتين بأما إذ يشتملان على أن كلا الفريقين موصوف بالكثرة وعلى أن العلم بكونه حقاً من الهدى الذي يزداد به المؤمنون نوراً إلى نورهم، والجهل بموقعه من الضلالة التي يزداد بها الجهال خبطاً في ظلمتهم، وهاتان يزيدان ما تضمنتاه وضوحاً أو أنهما جواب لدفع ما يزعمونه من عدم الفائدة في ضرب الأمثال بالمحقرات ببيان أنه مشتمل على حكمة جليلة وغاية جميلة هي كونه وسيلة إلى هداية المستعدين للهداية وإضلال المنهمكين في الغواية، وصرح بعضهم بأنهما جواب لماذا ووضع الفعلان موضع المصدر للإشعار بالاستمرار التجددي والمضارع يستعمل له كثيراً، ففي التعبير به هنا إشارة إلى أن الإضلال والهداية لا يزالان يتجددان ما تجدد الزمان، قيل‏:‏ ووضعهما موضع الفعل الواقع في الاستفهام مبالغة في الدلالة على تحققهما فإن أرادتهما دون وقوعهما بالفعل وتجافياً عن نظم الإضلال مع الهداية في سلك الإرادة لإيهامه تساويهما في التعلق وليس كذلك، فإن المراد بالذات من ضرب المثل هو التذكير والاهتداء كما يشير إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَتِلْكَ الامثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏ 1 2‏]‏ وأما الإضلال فعارض مترتب على سوء الاختيار، وقدم في النظم الإضلال على الهداية مع سبق الرحمة على الغضب، وتقدمها بالرتبة والشرف لأن قولهم ناشىء من الضلال مع أن كون ما في القرآن سبباً له أحوج للبيان لأن سببيته للهدى في غاية الظهور، فالاهتمام ببيانه أولى، ووصف كل من القبيلتين بالكثرة بالنظر إلى أنفسهم وإلا فالمهتدون قليلون بالنسبة إلى أهل الضلال وبعيد حمل كثرة المهتدين على الكثرة المعنوية بجعل كثرة الخصائص اللطيفة بمنزلة كثرة الذوات الشريفة كما قيل‏:‏

ولم أر أمثال الرجال تفاوتت *** لدى المجد حتى عد ألف بواحد

لا سيما وقد ذكر معها الكثرة الحقيقية، هذا وجوّز بعضهم أن يكون قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا‏}‏ الخ في موضع الصفة لمثل فهو من كلام الكفار، ولعله من باب المماشاة مع المؤمنين إذ هم ليسوا بمعترفين بأن هذا المثل يضل الله به كثيراً ويهدي به كثيراً وأغرب من هذا تجويز ابن عطية أن يكون ‏{‏يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا‏}‏ من كلام الكفار وما بعده من كلام الله تعالى وهو إلباس في التركيب وعدول عن الظاهر من غير دليل، وإسناد الإضلال إليه تعالى حقيقي وقد تقدم وجهه فلا التفات إلى ما في «الكشاف» لأنه نزغة اعتزالية، والضمير في ‏{‏بِهِ‏}‏ للمثل أو لضربه في الموضعين، وقيل‏:‏ في الأول للتكذيب، وفي الثاني للتصديق ودل على ذلك قوة الكلام، ولا يخفى ضعفه، وقرأ زيد بن علي‏:‏ ‏{‏يُضِلَّ‏}‏ هنا وفيما يأتي و‏{‏يَهْدِى‏}‏ بالبناء للمفعول وابن أبي عبلة في الثلاثة بالبناء للفاعل، ورفعاً للفاسقين خفضهم الله تعالى ‏{‏وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين‏}‏ تذييل أو اعتراض في آخر الكلام بناءً على قول من جوّزه، وقيل‏:‏ حال، ومنع الساليكوتي عطفه على ما قبله قائلاً لأنه لا يصح كونه جواباً وبياناً، وأجازه بعضهم تكملة للجواب وزيادة تعيين لمن أريد إضلالهم ببيان صفاتهم القبيحة المستتبعة له وإشارة إلى أن ذلك ليس إضلالاً ابتدائياً بل هو تثبيت على ما كانوا عليه من فنون الضلال وزيادة فيه، و‏(‏ الفاسقين‏)‏ جمع فاسق من الفسق، وهو شرعاً خروج العقلاء عن الطاعة فيشمل الكفر ودونه من الكبيرة والصغيرة‏.‏

واختص في العرف والاستعمال بارتكاب الكبيرة فلا يطلق على ارتكاب الآخرين إلا نادراً بقرينة، وهو من قولهم‏:‏ فسق الرطب إذا خرج من قشره، قال ابن الأعرابي‏:‏ ولم يسمع الفسق وصفاً للإنسان في كلام العرب، ولعله أراد في كلام الجاهلية كما صرح به ابن الأنباري، وإلا فقد قال رؤبة، وهو شاعر إسلامي يستدل بكلامه‏:‏

يذهبن في نجد وغور أغائرا *** ‏(‏فواسقا‏)‏ عن قصدها جوائرا

على أنه يمكن أن يقال‏:‏ لم يخرج الفسق في البيت عن الوضع لأنه وضعا خروج الإجرام وبروز الأجسام من غير العقلاء وما فيه خروج الإبل وهي لا تعقل‏.‏ والمراد بالفاسقين هنا الخارجون عن حدود الإيمان وتخصيص الإضلال بهم مرتباً على صفة الفسق وما أجرى عليهم من القبائح للإيذان بأن ذلك هو الذي أعدهم للإضلال وأدى بهم إلى الضلال فإن كفرهم وعدولهم عن الحق وإصرارهم على الباطل صرفت وجوه أنظارهم عن التدبر والتأمل حتى رسخت جهالتهم وازدادت ضلالتهم فأنكروا وقالوا ما قالوا، ونصب ‏{‏الفاسقين‏}‏ على أنه مفعول ‏{‏يُضِلَّ‏}‏ أو على الاستثناء والمفعول محذوف أي أحداً، ولا تفريغ كما في قوله‏:‏

نجا سالم والنفس منه بشدة *** ولم ينج إلا جفن سيف ومئزرا

ومنع ذلك أبو البقاء ولعله محجوج بالبيت‏.‏